إياد عز الدين _ بغداد 

بمجرد إعلان دائرة صحة الرصافة في بغداد منتصف شهر أيار/ مايو الماضي مدينةَ الصدر وما جاورها من المناطق ضمن الأكثر احتضاناً للمصابين بفيروس كورونا (كوفيد -19)، سارعت وزارة الداخلية العراقية بإغلاق جميع المنافذ المحيطة بمدينة الصدر شرق بغداد، ومن ضمنها شقق الفلسطينيين في منطقة البلديات أحد الأحياء التابعة لمدينة الصدر والمحاذية لها.

ورغم عدم تسجيل إصابات بالفيروس في صفوف الفلسطينيين إلا أنّ سفارة السلطة الفلسطينية في العراق، حذرت من مغبة عدم الالتزام بسبل الوقاية من قبل الفلسطينيين القاطنين بمنطقة البلديات، وقالت في بيان لها: "إن تجمع البلديات في قلب البؤرة وقد لوحظ بشكل كبير كسر الحظر من قبل أبناء الجالية حيث هناك تجمعات بدون الاخذ بالاحتياطات اللازمة"، داعية إلى الالتزام بالحظر سواء كان كاملاً أو جزئيّاً وبالتعليمات التي تصدرها وزارة الصحة العراقية.

بدروهم سكان تجمع البلديات، أبدوا حرصاً ممزوجاً بالقلق، وتعاملوا مع الوباء كعدو غير مرئي، لا سيما بعد الإعلان عن المنطقة التي يقطنون بها بأنها تمثل النسبة الأكبر في عدد المصابين بالفيروس ضمن منطقة بغداد، حسب المسح الصحي الذي أجري قبل أسبوع،  ما حمل وجهاء المنطقة الفلسطينيين إلى توجيه نداء خاصة لفئة الشباب بعدم التجمع واتخاذ سبل الوقاية.

ولعل حالة الخوف الكبيرة المنتشرة بين الفلسطينيين في تجمع البلديات تعود إلى معرفتهم المسبقة بعدم قدرتهم على تحمل تكاليف العلاج - الذين اعتادوا أن يتلقوه في الأمراض البسيطة من جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وفي العمليات الجراحية الكبيرة عبر وسائل التكافل الاجتماعي كالتبرعات من الفلسطينيين ميسوري الحال خارج العراق-  أو إيجاد أماكن في المستشفيات المكتظة بالمصابين بالفيروس، ما قد يحملهم فوق طاقاتهم لا سيما وأن سني ما بعد الغزّو الأمريكي للعراق عام 2003 غيّرت كثيراً في واقعهم في مناحي الحياة كافة.

فقر وتهميش ووباء

أحد وجاء التجمع رفض الكشف عن اسمه حين تحدث لبوابة اللاجئين الفلسطينيين عن الوضع الحالي في ظل انتشار جائحة "كورونا"، رغم أن عنوان الموضوع عادي جداً وبات العنوان الأبرز لكل وسائل الإعلام وأحاديث الناس في العالم، لكن ذلك يعكس حجم عدم الشعور بالأمان الذي يكتنف حياة من بقي من الفلسطينيين في العراق خلال العقدين الماضيين، فما تعرض له الفلسطينييون هناك ليس بالقليل.

يؤكد هذا اللاجئ الفلسطيني أن وباء كورونا لا يسبب الخوف لهم، لأنهم عاشوا في ظروف "أخطر من الوباء، وشهدنا الاعتقال والخطف والقتل بحقنا أمام عيوننا بينما كورونا مرض عادي، ولكن قلقنا على شبابنا وعوائلنا، فإعلان أن منطقة البلديات من أكثر مناطق انتشار وباء جعلنا نشعر بأننا في خطر .. خطر نشعره ولا ندري ماهيته خاصة بعد أن حجرنا من قبل وزارة الداخلية"

ويجمع أهالي التجمع أن الحجر المنزلي المفروض عليهم للوقاية من الوباء لا يرافقه أي شكل من أشكال الدعم المادي أو المعيشي التي من شانها أن تحفظ لهم أسباب البقاء، باستثناء بعض المبادرات.

في هذا السياق يقول الشاب ح . م : " نحن الفلسطينيون بالأصل محجور علينا في العراق منذ الغزو الأمريكي وسقوط نظام الحكم السابق، أنا أسكن في شقة بإيجار شهري ، أحياناً أحاول العثور على عمل داخل التجمع، والآن لم يعد بإمكاني أبداً البحث عن عمل بسبب الحجر المنزلي، فيما لم تصلنا أي مساعدات لتعيننا على البقاء"

من جهتها قالت إحدى اللاجئات الفلسطينيات في التجمع، ورفضت أيضاً الكشف عن اسمها: "نسمع عن مساعدات غذائية توزع للفقراء، خصصت لمجمع البلديات  بسبب فرض حظر التجوال، ولكنّا لم نستلم أي منها"

 شاب فلسطيني من ذوي الاحتياجات الخاصة، يتوقع أن من لم يمت بالوباء سيموت من الجوع، وبحسب ما قال لموقعنا فإن مساعدات كثيرة سمعوا أن وزارة خارجية السلطة الفلسطينية سلمتها للسفارة في بغداد من أجل مساعدة العائلات الفقيرة، لكنها لم تصل لأغلب الفلسطينيين الفقراء في المجنمع ما يثير استغرابهم.

وأشار إلى أنه صاحب عائلة، تقتات يومياً على ما تستطيع شراءه من معلبات رخيصة الثمن.

هو إذاً واقع صعب يكابده اللاجئون الفلسطينيون في مجمع البلديات ببغداد، ليس إلا امتداداً لـ 17 عاماً عاشها هؤلاء الفلسطينيون، بعد الغزو الأمريكي للعراق تصنف من السنين الأكثر مأساوية على كافة الفلسطينيين في هذا البلد.

 

مجمع البلديات  

تنقسم منطقة مجمع البلديات، إلى مساحتين كبيرتين، المساحة الأولى تحتوي على شقق تم بناؤها في عهد الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر، خصصت للفلسطينيين منذ عام 1975، وكان تمويل بنائها يأتي من الأمم المتحدة.

والمساحة الثانية عبارة عن دور مستقلة مملوكة لأصحابها العراقيين في الجهة المقابلة لشقق الفلسطينيين.

وقد شيدت 16 عمارة للفلسطينيين في البلديات وفي كل عمارة 4 مداخل وفي كل مدخل 12 شقة، آوت 768 عائلة فلسطينية.

ويعتبر مجمع البلديات أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في العراق منذ بنائه، حيث وجد فيه أيضاً مرافق خدمية كمستوصف تابع للهلال الأحمر الفلسطيني ونادي حيفا الفلسطينني الذي سمي بهذا الاسم نظراً لأن غالبية سكان المجمع ينحدرون من قرى قضاء حيفا المهجرة عام 1948 إبان النكبة، ومسجد القدس.

عاش الفلسطينيون منذ ذلك التاريخ في التجمع، بأمن وسلام، حالهم حال جميع الأحياء العراقية.

ولم تسجل خلال تلك الفترة أي اعتداءات بحقهم،  من أي جهة سياسية أو فئوية أو حزبية، وبعد  استلام الرئيس الراحل صدام حسين السلطة عام  1979 لم يتغير شيء، وبقى وضع اللاجئين الفلسطينيين على حاله، إلا في حالات استثنائية، كتلك التي حدثت عام 2000 حين استهدفت أحزاب تابعة لإيران (كانت حينها على عداوة مع نظام صدام حسين) باستهداف مديرية الأمن العامة المجاورة لشقق الفلسطينيين بقذائف هاون، أصابت شقق الفلسطينيين ما أدى إلى قضاء 5 لاجئين فلسطينيين بينهم يوسف العثامنة أحد وجهاء مجمع البلديات.

وبعد مرور أكثر من عقد على حكم صدام حسين، وفرض حصار وعقوبات اقتصادية على البلد نتيجة لدخول القوات العراقية إلى الكويت، بدأ تأثيرات اقتصادية تطال حياة اللاجئين الفلسطينيين، وصارت الشقة التي تشغلها أسرة واحدة تعيش فيها عدد من الأسر من ذذات العائلة.

تجمع البلديات هدف مكرر للمليشيات الطائفية بعد الاحتلال الأمريكي

ومع انتهاء حكم صدام حسين بالاحتلال الأمريكي للعراق، وهيمنة السياسة الطائفية على البلاد، بدأت فعلاً الكارثة الحقيقية لجميع الفلسطينيين في العراق، إلا أن لسكان تجمع البلديات كان النصيب الأكبر من الألم، حيث شكل سكانه من بين فلسطيين العراق النسبة الأخطر التي تعرضت للخطف والقتل والتنكيل على خلفيات طائفية، ولعل السبب يمكن في أن مجمع البلدات مجاور لمدينة الصدر معقل المليشيات الطائفية المسلحة في البلاد، فالمدينة تؤوي 80 % من المجاميع المسلحة الخارجة عن القانون في بغداد، بحسب إحصائيات داخلية.
 



وفي ظل هذا الواقع الجغرافي، تعرض مجمع البلديات لهجمات متكررة من المليشيات، والتي كانت بمعظمها تتم على مرأى من قوات الاحتلال الأمريكي ومن بعده القوات العراقية الحكومية.

ويقدر عدد الفلسطينيين المخطوفين من أبناء التجمع والمجهولِ مصيرهم بثلاثين فلسطينياً، فيما بات تلقي أنباء قتل فلسطينيين أو خطفهم للحصول على فدية مالية، أو إجبارهم على الظهور في الإعلام للاعتراف بجرائم إرهابية لم يرتكبوها من يوميات أبناء مجمع البلديات في العقدين الماضيين الذين شهدا أيضاً تعرض التجمع للهجوم بالأسلحة الثقيلة مرات عدة، إحداها استهدفت مستوصف الهلال الأحمر الفلسطيني واخرى مسجد القدس مرات عدة في عام 2006 وأسفرت عن قضاء مؤذنه وبعض حراسه وعشرات المصلين، وجرح العشرات أيضاً ومنهم من لا يزال يعاني من الإصابة حتى اليوم. 

في هذه السنين القاسية، تم الاستيلاء على كثير من شقق الفلسطينيين في مجمع البلديات، وتم بناء بيوت عشةائية ملاصقة لهم من قبل أبناء الأحزاب الطائفية، ما أسفر عن مزيد من التضييق عليهم، وجعلهم فريسة سهلة في ظل غياب دولة القانون والمحاسبة وكل ذلك مع عدم وجود طرف فلسطيني رسمي يتكئون عليه لتحصيل حقوقهم، أو لإشعارهم بأمان افتقدوه ولم يعد موجوداً.

ولعل قصة الرياضي الفلسطيني ميلاد العريبي مثال واحد عن حالات كثيرة تم التعرض فيها للفلسطينيين في تجمع البلديات، دون وجود ممثل عنهم يحميهم ويسترد لهم حقوقهم التي سلبت منهم شيئاً فشيئاً، وأبرزها الحق في العيش بكرامة وأمان.

فالعريبي وهو أحد الرياضيين المشهود لهم بحسن السيرة والسلوك تعرض لاعتقال من جهة مجهولة عام 2015، ليخرج بعد 3 أيام على فضائية تابعة لإحدى الأحزاب الطائفية يعترف بتفجير سيارة في إحدى مناطق بغداد.

الجميع يجمع أن الاعترافات أخذت منه تحت التعذيب والتهديد بمزيد منه، لتقوم بعد ذلك مجموعات مسلحة باقتحام شقة أهله وطردهم منها إلى الشارع والاستيلاء عليها

 وبهذه الطريقة، وغيرها كإجبارهم على بيق شققهم بأسعار زهيدة أو اتهامهم بقضايا مختلفة، تم الاستيلاء على كثير من شقق الفلسطينيين في التجمع، لتتغير تركيبته ويصبح الفلسطينيين فيه أقلية مستضعفة.

اليوم زاد عدد البيوت في التجمع بعد اقتلاع الأشجار والاستيلاء على المساحات الفارغة لبناء عشوائيات، حاولت أمانة بغداد دون جدوى، فمن بناها محمي من حزبه في دولة تسيطر عليها الحسابات الحزبية والعشائرية وقوة السلاح، ما جعل الخيار الأفضل للفلسطينيين الهجرة، ومن لم يحالفه الحظ البقاء في سجنه المنزلي محاط بتهديدات طائفية وعشائرية، يضاف إليها في الأشهر الأخيرة وباء "كورونا" لتزيد من عزلتهم والأخطار المحيطة بهم.

 

خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد