كُتب علينا الترحال والتهجير منذ نكبة عام 1948 إلى يومنا هذا ، قابعين في دولٍ وبلادٍ ليست لنا منذ عدة عقود ، الحديث عن معاناتنا مع اللجوء في الخارج "داخل المخيمات" يطول لأننا نحن فقط من يَخبُر هذه المعاناة ، منذ أن حطت 310خيام في أراضي اللجوء، إلى أن تحولت هذه الأقمشة إلى بيوت مبنية في أزقةٍ لاتُرى فيها أشعة الشمس.
 شعور الضياع بفقدان الوطن وطعم الغربة المرّ ومشقة العيش لم تبق كما كانت منذ ثلاثة وسبعين عاماً، بل تزداد يوماً بعد يوم، تزداد مع كل حدث أو حرب أو أزمة تقع في كل بلد نسكن فيه، لا سيما الدول العربية التي نقطنها والتي تعيش الآن في صراعٍ لا نعلم إلى أين سيصل .
لا شك أن تجربة أحفاد اللاجئين الذين يعانون المر والأمر في الدول العربية والذي يتحتم عليهم دائماً اللجوء والنزوح المستمر يبقيهم في واقع صدمة دائم ، قُصفوا ودُمروا وتشردوا واعتُقلوا وهناك حكومات أيضاً حملتهم سبب ما يحصل في بلادها ليكون الفلسطيني شماعةً تُعلقُ عليها أخطاء هذه الحكومات، فضلاً عن الكلام الذي يسمعه من ضعفاء النفوس "أشقائه العرب "الذين يتهمونه ببيع أراضيه في فلسطين وأنه أخذ ثمنها من الاحتلال.
وكنت قد ذكرت ذلك سابقاً "بأن سبب ضياع فلسطين لم يكن يوماً فساد السلاح بل كان السبب ولا سبب سواه هو فساد الخلق القومي في الحكم العربي" فمنذ الحرب العالمية الأولى كان التنافس على فلسطين بين التيارات الإسلامية والتيارات العربية من أجل الهوية الفلسطينية، وكل هذا جعلنا ورقة رابحة متنازع عليها ونحن دائماً مَن ندفع ثمن ذلك.
واستكمالاً للحديث عن معاناة أحفاد اللاجئين كان لابد من ذكر "مخيم اليرموك" لأنه واجهة الحدث الأخير إلى الآن فهو الشاهد والشهيد الذي توّج هذه المعاناة التي أقل ما يقال فيها كارثية.
 عاصمة الشتات الفلسطيني الذي زُج بالقصد في دائرة الصراع تحول في غضون أقل من أسبوعين إلى عاصمة لجوء منكوبة، إلى ساحة حربٍ دموية، سكانهُ لا يمكنهم التعرف عليه أبداً، كنا في هذا المخيم محض أطفالٍ نرى فلسطين دائماً في مناماتنا وأحلامنا فردوسنا المنشود، إلى أن دُمر المخيم في أوجِ شبابنا. ومحطة الانطلاق للعودة الآن أصبحت فردوسنا المفقود ، فنحن في مخيمات اللجوء تعددت أساليب تعذيبنا ولكن المعاناة واحدة، من تل الزعتر إلى حرب المخيمات في لبنان إلى أحراش عجلون سلسلة من الإبادات لا تنتهي ولا تريد أن تفارق اللاجئ أينما حلّ .
لم يكن حفيد اللاجئ ذات يوم في هذا الشتات الداخلي الذي أحاله لأن يُصبح دُمية آلية، يعي حجم الكارثة وقتها، لم يكن يعي أنه أكثر الأجيال تضرراً بعد نكبته التي تضج بها ملامحه ويشهد عليها واقعه، فهو أكثر ضحاياها ألماً.
الأحداث التي يعيشها الآن تبقيه في حالة ذهولٍ طويل، ذهولٍ مستجد ليصبح ذهوله دوامة تحتويه دائماً، تبقي عقله مشلولاً لا يستطيع أن يُقدر حدود ما هو فيه.
 فلسفة واقعية من دون شرح هي حال اللاجئ المسكين، فواقع اللجوء هو شعور مُستدام ، لأن وجوده متنازع عليه، بين المقاومة والخضوع ، بين الكلام والصمت، بين الحضور والغياب، بين الذاكرة والنسيان .
المجد لـ اللاجئ الفلسطيني، المجد لمعاناته، المجد لصبره الذي تعدى حدود الصبر، المجد لذاكرته، المجد لكونه الشاهد الوحيد على الوجع الحقيقي والخذلان العربي قبل الدولي، فكم كسروك وتقاسموك وأنكروك، وكم كنت وحدك.

نسيبة دراجي - لاجئة فلسطينية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد