سوريا

الكاتب علي بدوان
في الساعات الأولى من صباح اليوم، الخميس الواقع في السادس والعشرين من نيسان/ابريل 2018، المفوض العام لوكالة الأونروا (بيير كرينبول) يُصدر بياناً عن مخيم اليرموك، قامت بتعميمه وتوزيعه الوكالة، يقول فيه  "إن اليرموك وسكانه قد عانوا من ألم لا يوصف، ومن معاناة على مدى سنوات النزاع. ونحن قلقون للغاية حيال مصير الآلاف من المدنيين، بمن في ذلك لاجئو فلسطين، وذلك بعد أكثر من أسبوع من العنف المتزايد بشكل دراماتيكي، وقد تسببت الأعمال العدائية التي تجري حالياً بوقوع الوفيات والجرحى وتسببت بنزوح حوالي خمسة آلاف لاجئ من فلسطين من مخيم اليرموك إلى منطقة يلدا المجاورة. كما أن هنالك عدداً غير مؤكد من المدنيين محاصرون في اليرموك وبحاجة ماسة إلى ممر آمن للخروج من المخيم. إن تلك العائلات التي التجأت إلى يلدا قد أجبرت على النوم في الشوارع أو في ملاجئ مؤقتة".

لم يصبح اليرموك مجرد الكلمة المرادفة للمعاناة العميقة التي اختبرها لاجئو فلسطين في سوريا، بل وأصبح أيضاً رمزاً لعمليات التهجير والتشريد المُتكررة للاجئي فلسطين في بلدان الطوق منذ حوالي سبعةِ عقود. وقد سَبَقَ وأن وصف الأمين العام السابق للأمم المتحدة (بان كي مون) حال مخيم اليرموك عام 2015 بأنه "الدرك الأسفل من النار".

في واقع الحال، يعيش مخيم اليرموك لحظاته الأخيرة :

بَشَراً، لما تبقى من أبنائه داخل أزقته وحواريه وتعرجاتها، وحتى على تخومه، حيث مدنيون عُزّل، لا حول لهم ولا قوة إلا بالله، قابعون في منازلهم أو في الملاجئ. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

وحجراً، لما تبقى من منازله وجدرانه، حيث طال الدمار مناطق لابأس بها من مربعات اليرموك، بينما تدور المعارك الطاحنة على جنباته، والخاسر الكبير هو سوريا، وأبناء اليرموك من مواطنين سوريين وفلسطينيين.

إنهاء مخيم اليرموك، قتل لشاهدٍ تاريخي على النكبة، ومحاولة لتصفية حق العودة، وحرق ذاكرة التراب، ليتلاشى المكان الذاكرة. فقد فتحت جروح وآلام ومحنة مخيم اليرموك وعموم التجمعات الفلسطينية اللاجئة فوق الأرض العربية السورية، ملفاً طويلاً وعريضاً، مازالت مفاعيلة متواصلة على الأرض، ملفاً يَتعلق بالمساعي التي بدأت منذ وقتٍ طويل في كواليس الدبلوماسية السرية من أجل إهالة التراب على المخيم الفلسطيني في الشتات، وشطبه من الوجود لما يحمله من دلالات قاطعة تتعلق بحق العودة.

مأساة مخيم اليرموك، ليست مُغايرة أو معزولة عن الحالة العامة في مسارات الأزمةِ السوريةِ، لكنها في سَفر الحالة الوطنية الفلسطينية تأخذ أبعاداً دراماتيكية، أكثر قسوة، وأشد مرارة عن غيرها مما وقع في مناطق مختلفة من سوريا. فمخيم اليرموك في نهاية المطاف ليس سوى تجمع لاجىء على أرض سوريا العربية، لازال مواطنوه وسكانه من لاجئي فلسطين يحملون في أفئدتهم، ووعيهم الجمعي، حلمهم المشروع بالعودة الى أرض وطنهم فلسطين، إلى حيفا ويافا وعكا وصفد .... ففي عُرفِهم أنَّ الإقامة وإن طالت في مخيم اليرموك وعموم بلدان اللجوء والشتات، تبقى إقامة مؤقتة، بانتظار تحقيق الوعد الفلسطيني.

نكبة مخيم اليرموك، ونكبة فلسطينيي سوريا عموماً، كانت الأقسى والأمَرّ منذ نكبة الوطن الفلسطيني في العام 1948، والتي تقترب الآن من ذكراها السبعين. فمسيرة العُمرِ وشقاء العمل، وحصاد سنوات التعتير والكد، تَبَخَّرَ وتلاشى، ولم يَعُد من طريق أمام الأعداد المُتزايدة من لاجئي فلسطين في سوريا سوى التفكير بالهجرة الى أصقاعِ المعمورةِ الأربع، وبعيداً عن البلدان العربية التي لاتعترف أصلاً بـ "وثيقة السفر" التي يحملونها، وكل ذلك بعد أن ضاقت بهم أرض العروبةِ على اتساعها. حيث تجري في العالم العربي، وبشكلٍ عام، عملية شيطنة الفلسطيني، خاصة حملة الوثائق، ويرافقها صناعة تيار مُبغض للفلسطينيين، وخاصة لحملة الوثائق، بهدف التضييق عليهم ومحاصرتهم معنوياً ونفسياً على غرار محاصرتهم مادياً في مربعات غزة والضفة الغربية.

إن فلسطينيي سوريا، ومنهم كاتب هذه السطور، وفوق التهجير والرحيل القسري لأعدادٍ واسعةٍ منهم يعانون الأمريّن. فالحرب، أي حرب، ومهما كانت أسبابها ومُسبباتها، تُنتج كوارث إنسانية تدفَع الناس المنكوبون إلى الهروب من الموت والرحيل إلى المجهول، وبالأمس نزح ملايين من الشعب العراقي خارج بلاده جراء الغزو الأمريكي لبلادهم، وفي عام 2006 نزح مئات الآلآف من اللبنانيين جراء عدوان "إسرائيل" عليهم، واليوم هناك سوريون غادروا بلادهم هرباً من أهوال الأزمة المُستعرة، وفي كل الحروب هناك لاجئون ومهجّرون وضحايا وكوارث إنسانية .. لكن الفارق بينهم، بين كل اللاجئين والنازحين، وبين الفلسطينيين، أن الشعب الفلسطيني طُرِدَ من أرضه طرداً واقتلاعاً وترحيلاً قسرياً في ظل اختلالات دولية في حينها، بينما الآخرون لم يفقدوا أوطانهم، حيث إن رحلتهم إلى التيه ستبقى قصيره وإن طالت قليلاً ... أما رحلة التيه الفلسطينية فمستمرة نكبة تلو نكبة، وهنا يَكمُنُ عُمق المأساة.

الكتلة الأكبر ممن غادر سوريا من فلسطينييها هم من جيل الشباب، ومن أصحاب الكفاءات العلمية وخريجي الجامعات والمهنيين، الذين باتوا في تغريبة جديدة في بلدان المُغتربات والمهاجر البعيدة والممتدة من الدول الإسكندنافية إلى أستراليا ونيوزلندا ومابينهما حتى إلى الصومال وكمبوديا وجزر المالديف وماليزيا وروسيا، وإلى أكثر من ثلاثين دولة عبر العالم التي وصلوا إليها بسبب نيران الأزمة السورية التي أصابتهم في الصميم، في هجرة متتالية كل يوم دون جرس إنذار، على متن السفن بإتجاه إيطاليا واليونان ومالطا وغيرها، ومن مرسين في تركيا. وقد وقعت حوادث خلال تلك الهجرات على متن تلك السفن، وأودت بحياة المئات من فلسطينيي سوريا، فبعض من غادر منهم ساحات القتل والموت في مخيم اليرموك وجد نفسه على الساحل الإفريقي من الإسكندرية وغيرها بإتجاه سواحل إيطاليا ليموت هناك مع ارتطام وغرق بعض من تلك السفن.

لقد كَتَبَ فلسطينيو سوريا، على شوارع المخيم أسماء البلاد التي ضاعت.. ويرسمون الآن في السراب ذاكرة شوارع المخيم الذي يكاد أن يضيع ....

خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد