أجرى الحوار : الوليد يحيى 

دهشةٌ والكثير من الخبايا الشيّقة التي تغوي الكثيرين لِسَبرها، في تجربة ابن مخيّم اليرموك والمقيم في ألمانيا،
الشاعر خلدون رحمة، الذي تمكّن في زمن نستطيع وصفه بالقياسيّ، من امتلاك أدوات ثقافية، لآخر شديد البُعد في غرابته وغربته بالنسبة لنا كعرب، وتطويعها متفوّقاً على أقرانه من أصحابها الأصليين،
في سابقة شعريّة يخطّها شابٌّ لاجئ في ألمانيا !

هذا التقديم ليس سوى إخبار عن إنجاز لخلدون قد يفي بغرضه خبرٌ في الإعلام، وهذا ليس كل مافي الأمر،فموضوع هذه المادّة، هو "شاعرٌلاجئ و لاجئٌ شاعر"، فهاتان العبارتان المكوّنتان من كلمتين متطابقتين، يفيد تبدّل مكانيهما بالدلالة الى حالتين، كلتاهُما محاولة لعنونة مختصرة مبدئيّة، تُعرّف عن خلدون رحمة، يوضّح أبعادها، عُمقٌ بيّنٌ في سرد التجربة، وما تنطوي عليه شخصيّة صاحبها وخائضها، ففي هذه التجربة نموذج قادر على الإدهاش، بما ينطوي عليه من أبعاد شخصية ومعرفية وإبداعيّة.

"نحت المخيم لبَّ قلبي"

الشاعر اللاجئ، الذي عاش في مخيّم اليرموك منذ الولادة عام 1984، وكوّنه المخيّم منذ شهقاته الأولى وفق تعبيره، يتحدّث عن ذلك التكوين في حوار أجراه معه موقع  "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" ويقول :"نحتَ المخيّم  لبّ قلبي بكلّ ما فيه من حنين معتّقٍ وانتظار كادح وحبٍ عميق، أرشدني إلى صيرورة مكان أكبر من أبعاده الجغرافيّة، وأيقظ وعيي على طرق تتصاعد في الأفق المالح بحثاً عن الوردة الأولى فلسطين، بدأت كتابة الشعر منذ تَفَتّقت فِيَّ أسئلة حَرّى، أسئلة البحث عن الوطن الأول في الواقع والمخيّلة، المنفى وولاداته العسيرة المخاض، النار الحبلى بالمطر، والحب الأول  ".

جدالات الذات مع مفردات اللجوء وفقدان الوطن، ينفثها الفتى اللاجئ شعراً، وهو يتلمّس تكوينه المركّب الذي هيّج مكنونات الموهبة الغزيرة، والتي تبدو جليّة في عمق مفرداته في التعريف عن ذاته، لدرجةٍ قد يقرأها المرء من الرئتين، بلهاث حميم ودافئ.

 فهي نتاج المكان المخيّم، الذي انطلق منه خلدون الى عالم الشعر، وقرأ قصائده فيه وخارجه، ونشرها في العديد من الصحف والمجلّات الأدبيّة داخل سوريا وخارجها، حتّى دُرست بعض قصائده نقديّاً، ونُشر بعضها في كتاب " أوراق الزعتر" الذي يُعنى بمسألة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا.

في المخيّم وُلد الشاعر اللاجئ، بعد ولادة خلدون رحمة الانسان وسط مفردات اللجوء الفلسطيني في سوريا، و التي غادرها  الى لجوء آخر بعدما نضجت ملامحه كشاعر، يقول خلدون : "بقيت في المخيّم حتى تاريخ تفجّر الأوضاع الأمنية فيه، وتعرّضه للقصف الوحشيّ من قِبل طائرات النظام السوريّ، ما دفعني كباقي الناس في المخيم لخروج تراجيديّ من المكان والزمان إلى مجهول انتشرت أفكاكه في كل أرجاء الأرض وحدودها المليئة بالأشواك".

اللاجئ الشاعر،  حالة خلدون الذي حطّ لاجئاً في المانيا، و بدا وهو يواجه  حجم الصدمة الثقافية التي عادةً ما تواجه اللاجئين العرب في الغرب، أكثر استعداداً لهضم مفرداتها من سواه، بذهنية وقلب شاعر تبلورا في لجوئه السوريّ حيث نشأ الشاعر اللاجئ، يتلقّف وقع المفردات الجديدة بمُستقبلات عقليّة وشعوريّة دقيقة، مستهلّاً ذلك وفق ما يقول بـ"محاولة استنباط مقارنات عميقة بين الذي قرأته عن المجتمعات الغربية وتاريخها وآدابها، وركائز ثقافتها، وبين الواقع الجديد الذي وُجِدتُ فيه، هذا أدى إلى نوع من خفوت الدهشة في مخيلتي".

خفوت الدهشة -الصدمة، بعد إدراك دقائق الواقع الغربي المعقّد والمتشابك، لدرجة أنّ ذلك قد أشعره "بلحية كارل ماركس، وهي تمتد في الغابات الأساسيّة لفلسفة الاقتصاد، وأنّ مطرقة نيتشه وإيقاعات بيتهوفن، تدقّان خلف عقارب الساعات الصارمة" وبتعبير مباشر، أدرك أنّ "ما أبدعه الأدب الغربي عموماً من تصاوير ورموز وحالات، كان مُنعكساً في حركيّة الحياة وفي النظام النفسيّ للشخصية الغربية" وفق خلدون.

هضم المنفى بإدراك تكويناته

 "كان الجو بارداً بطريقة مفزعة، السكون متغوّل في عقل المكان، والعيون تسأل وتشير بشكل واضح" يصوّر خلدون المشهد في شرق ألمانيا حيث أقام في البدايات بهذه الكلمات، وفي تفاصيله ألمانٌ محبّون وطيّبون، خبروا سابقاً أهوال الحرب والتشرّد، وبينهم آخرون عنصريّون معادون للعرب والمُهاجرين.

دقّة الإدراك واستشعار التفاصيل وفهمها، قد يُبدد بعض الرهبة من مجاهل المنفى، ويهيّء الذات للخوض في التجربة، فصورة الواقع الجديد سرعان ما استوضحها خلدون لذاته، بتناقضاتها وتشابكاتها وتنوّعاتها، وشخصّها بذهنيّة قادرة على الهضم والإدراك، يقول :" تركةَ الحرب في شرق ألمانيا أفرزت بعض التيارات السياسية التي تتبنى أيديولوجيات عنصرية معادية للأجانب عموماً وللعرب والمسلمين خصوصاً، وهذا جعل من تلك المناطق أماكن توتر للاجئين كما سبّب لي بطبيعة الحال بعضاً من المواقف القاسية هناك".

أثر تلك المواقف، يبدد ادراك أسبابها ، ويدفع نحو المزيد من الاستكشاف، الذي كان من نتائجه أيضاً، جهلٌ كبيرٌ لمسه خلدون عند غالبيّة الألمان، بطبيعة العوالم الشرقيّة، متحسساً عمق الصورة النمطيّة المسبّقة، والتي أسس لها الاستعمار والاستشراق والإعلام المشوّه وفق ما يقول خلدون، تلك الاستكشافات والادراكات، دفعت به نحو الخوض بعيداً في تحدّ شيّق، في غمار مغامرته مع اللغة والثقافة والذهنيّة الألمانيّة.

اللغة من أجل إيضاح الذات

بدأ خلدون علاقته مع اللغة الألمانية، مدفوعاً بنتائج إدراكاته وهضمه لتكوينات المنفى، فلم تكن بالنسبة له اللغة مجرّد أداة للتواصل اليومي، يوضّع خلدون الأمر ويقول: " اندفعت مبكرا لتعلم اللغة الإلمانية بنفسي، ربما من أجل بلوغ قدرة ما على التعبير عن كوامن ثقافتنا العربية، وآلامنا ومشاعرنا بالإضافة إلى كسر الصور النمطية السّبقيّة عند غالبية الألمان الذين لا يعرفون كثيراً عن طبيعة عوالمنا الشرقيّة".

في مدينة روتنبورغ غرب المانيا، حيث انتقل للعيش عقب أشهر من وصوله البلاد، بدأ تعلّم اللغة في مدرسّة مختصّة، فبدأ التلمّس الدقيق، بصعوبة هذه اللغة المجهولة بالنسبة لنا كعرب، ويقول: " لم تكن اللغة الألمانية أمراً هيّناً ، إذ أنّ مخارج الحروف تحتاج إلى بنية خاصة بحركيّة اللسان، وأنّ طبيعة اللفظة والنظام القواعديّ وكيمياء التركيب، يجعل اللغة محفوفة بالنفور والاستهجان بالنسبة لنا كأجانب، نحن الذين لم نتعلم اللغة الألمانية في بلادنا، إلا في ما ندر".

صعوبةٌ، دفعت خلدون لتكثيف علاقته باللغة الألمانيّة، مدفوعاً بضرورة تخطي الضعف أمام أصحابها وفق خلدون، والأهم  حسبما أضاف  "أنني أريد أن أبعث برسالة للألمان ومن خلال لغتهم، أننا بشر قادمون من حربٍ ظالمة، وأننا نمتلك ثقافة ووعياً وحسّاً ومعنى، وأن لنا قضايا مصيريّة في حياتنا لا كما يتصور الكثيرون منهم، أننا قادمون من خلف صور نمطية أسس لها الاستشراق والاستعمار والإعلام المشوّه".

بالحبر العربي كلمات ألمانيّة.

في محاولاته الكتابيّة الأولى باللغة الألمانية، لم ينتب خلدون رحمة أي حرج في  الحديث عن ارتباكه الأوّل، ببعض تراكيب اللغة وتقنياتها، دفعه ذلك للجوء إلى مدرّس اللغة الألمانية من أجل أن يرشده  إلى أخطائه، بالإضافة إلى محاولاته اليوميّة لقراءة ما تيسر له من الشعر الألماني وبعض النصوص والمقالات.

المسألة هنا أيضاً لدى اللاجئ الشاعر، ليست إمتلاكاً للغة فحسب، بل كذلك هي  تأملٌ وإدراك للفوارق العميقة لأسس الفارق الثقافي وانعكاساته على الشعر والأدب وسواها، حيث  تستند  وفق خلاصات خلدون "بنية الشعر الغربي في جوهرها على إحالات أكثرَ ذهنيةٍ من الشعر العربي، حتى أنّ التعبيرات العاطفية في الشعر الغربي لا تأخذ صفة الغليان الحميم في الوصف والمعنى كما في شِعرنا العربي، وهذا أمر طبيعي يعبر عن تباين الثقافات وأسُسها الأولى عند شعوب العالم".

ويضيف " أردت أن أكتب بحبر عربي كلمات ألمانية، أو بمعنى آخر، أن أحمل الغربي إلى معرفة ذاتي وتاريخي ومشاعري وأفكاري من خلال لغته، لا من خلال لغتي، ومن خلال أدواته اللغوية لا من خلال أدواتي، وهذا ما سبب عند الألمان شيئا من الدهشة، باعتباري أجنبي جديد يكتب الشعر بلغتهم".

حول الحب والحرية والاغتراب، دارت قصائد خلدون الخمس، التي كتبها بحبر عربي وكلمات ألمانيّة، وحملها  إلى مسابقة شعريّة، وهو الذي لم يضع يوماً من ضمن خياراته المشاركة في مسابقات من هذا النوع، حيث سمع عن الأمسيّة من خلال صديق.

يقول خلدون: "قرأت بهدوء، إذ لاحظ الناس اختلاف لغتي، لكنني أدركت شغفهم بالسماع، كنت الغريب الوحيد من بين تسع شعراء وشاعرات ألمان، في النهاية تفاجأت بالتقييم ، إذ أنني حصلت على المرتبة الثانية ، وقد لفّني الخجل والدهشة".

أمّا الهويّة، فيرى خلدون في الكتابة باللغة الألمانية، أداة تعزيز لها في وعي الآخر، وليس ذوباناً فيه، فهي شكل من أشكال التعارف الثقافي الذي يفضي إلى الاحترام المتبادل، وفق المعيار الشخصي للاجئنا الشاعر.

الصحافة الألمانيّة تحتفي بخلدون رحمة.

 

 

 

خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد