أوس يعقوب

تُجمع التقارير الفلسطينية والإسرائيلية والدولية أنّ قطاع غزّة اليوم أصبح على حافة كارثة إنسانية غير مسبوقة بعد 11 سنة من أحداث الإنقسام في صيف 2007، وأنّ الأزمات باتت تتفاقم في ظلّ الإنهيار المتتالي للأوضاع الاقتصادية وتفشي البطالة، وتدهور الوضع الإنساني والمعيشي، بسبب تداخل عوامل مختلفة تتزامن مع محاولات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تمرير ما عرف بـ"صفقة القرن"، التي كثر الحديث عنها سواء من خلال فرضها على منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية أو من خلال تجاوزهما، ويحدث هذا في ظلّ تغول اليمين الإسرائيلي في كل مفاصل إتخاذ القرار في تل أبيب، وفي ظلّ تشرذم فلسطيني بلغ حدّ منتهاه ما ساهم بتعميق الوضع المأساوي الفلسطيني في أراضي السلطة عامة، وفي قطاع غزّة خاصة.

 

تقارير عديدة صادرة عن دوائر القرار في الضفة الغربية وغزّة وتل أبيب والمؤسسات الأممية اطلعنا عليها هذا الشهر، تؤكّد أنّ الأوضاع الإنسانية في قطاع غزّة المحاصر تجاوزت ما يمكن وصفه بالكارثي، بعد تتالي الأزمات التي أنهكت الاقتصاد المتعثر، وكبدته خسائر طالت أرزاق الناس الذين باتوا يقفون على شفا الهاوية في ظلّ انقطاع الكهرباء شبه الدائم، وغياب المياه النظيفة الصالحة للشرب، وفقدان مئات من الأدوات الطبية وأنواع الأدوية الأساسية، واستشراء الفقر لحدّ الجوع، حيث أشار المفوض العام لوكالة (الأونروا)، بيير كرينبول، في نيسان/ابريل الماضي، أنّ "المساعدات الغذائية العاجلة لنحو مليون فلسطيني (من أصل 2 مليون) في قطاع غزّة قد تنفد اعتبارًا من شهر حزيران/ يونيو 2018" أيّ الشهر الحالي.

الاحتلال وحصار (الأخوة) يحوّل غزّة إلى "سجن كبير" ..

تُبين التقارير أنّ نحو مليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزّة المعرّض في أيّ وقت لعدوان "إسرائيلي" جديد من دون سابق إنذار أو حدث، أوضاعاً معيشية واقتصادية غاية في الصعوبة والقسوة، مع تزايد الضغط الذي تمارسه أطراف مختلفة ويطاول كل شيء في البقعة السكانية الأضيق في العالم، ويشبّهها كثيرون بـ"السجن الكبير". ممارسو التضييق على قطاع غزّة منذ أحد عشر عاماً، هم الأطراف أنفسهم، بدءاً من كيان الاحتلال الفاشي الذي يشدد حصاره، ويضيّق على السكان وحركتهم عبر المعابر المُسيطر عليها، مروراً بمصر التي تغلق معبر رفح البري الذي يُعتبر المنفذ الأهم لسكان القطاع على العالم الخارجي، وصولاً إلى سلطة أوسلو في المقاطعة برام الله المحتلة التي تواصل فرض حسومات تزيد عن الثلاثين في المائة من مجمل الرواتب الشهرية المدفوعة لموظفيها (نحو 60 ألف موظف) في القطاع، ما أدى لوصول التجار والمنشآت الاقتصادية إلى وضع صعب جدًا، وفقدان السيولة من الأسواق ومن أيدي التجار.

وقد أكّد مختصون في المجال الاقتصادي أنّ هذه الإجراءات التي فرضتها سلطة محمود عباس على غزّة حرمت القطاع من نحو 20 مليون دولار أميركي شهرياً، كانت تمثل سيولةً نقدية للقطاعات التجارية المختلفة داخل القطاع المنهك اقتصادياً من الأساس جراء تبعات الحصار الإسرائيلي وثلاث حروب مدمرة على القطاع أعوام 2008 و2012 و2014.

ويقول خبراء اقتصاديون إنّ غزّة دخلت مرحلة ما قبل الانهيار الاقتصادي التام، لكن الواقع على الأرض يشير إلى أنّ القطاع دخل هذه المرحلة قبل فترة، وبات يُسمع علناً أنّ بعض كبار التجار في القطاع مطلوبون بقضايا ذمم مالية، ما أدى إلى إغلاق منشآت اقتصادية عديدة في الأشهر الماضية.

كما انعكست أزمة الكهرباء سلباً على سكان غزّة جميعاً، ودفعت عددًا من تجارها إلى إغلاق محالهم التجارية بعدما وصل بهم الحال إلى أشده، جراء الانخفاض الحاد في ساعات وصل التيار الكهربائي لمناطق القطاع، حيث تدرجت تنازلياً من ثماني ساعات وصل مقابل مثلها قطع، إلى 4 ساعات وصل في أحسن الأحوال، وفصل لنحو 20 ساعة متتالية في أحيان كثيرة.
ومع استمرار الحصار الإسرائيلي للعام الحادي عشر على التوالي، بدون بريق أمل يخففه أو ينهيه، وفي ظلّ تزايد معاناة القطاع الذي بات يضيق على سكانه أكثر فأكثر.

 وباتت نتائج الحصار الإسرائيلي ملموسة على كل المستويات، أهمها إعمار المنازل والمؤسسات المدمرة الكثير، حيث لم ينجز من الإعمار الشيء الكثير وبقيت منازل ومرافق حيوية عديدة بانتظار إعادة بنائها بعد تدميرها في العدوان الصهيوني عام 2014.

وبحسب خبراء محليين في القطاع، فإنّ العام 2017 هو الأسوأ اقتصادياً على غزّة، بسبب المعاناة من سياسة الحصار والهجمات الإسرائيلية العدوانية المتكررة على القطاع، وتأخر عملية إعادة الإعمار على الرغم من تحذيرات المؤسسات الدولية من تداعيات ما سبق.

وفي هذا السياق أكّد الخبير في الشأن الاقتصادي، الدكتور نصر عبد الكريم، في تصريح صحفي في وقت سابق، أنّ "أداء الاقتصاد الفلسطيني خلال العام 2017، (في أسوأ حالاته)، ولم يطرأ عليه تغيرات عن حالته في 2016، بحيث سار بنفس الوتيرة".

كذلك أظهرت دراسة حديثة أصدرها مركز "الميزان" لحقوق الإنسان، مقره غزّة، ارتفاع معدلات البطالة في القطاع إلى 46.6%، بينما تجاوزت نسبتها في صفوف الشباب والخريجين الجامعيين 60%، وفي صفوف النساء تجاوزت الـ85%. ويشير المركز الحقوقي إلى أنّ "التغيرات السياسية في قطاع غزّة انعكست على معدلات البطالة وأدت لتفاقمها".

انهيار القطاع الطبي ينذر بالإنفجار ..

على الصعيد الطبي، وهو الأهم بالنسبة للغزّيين، يقول الدكتور إياد خمايسي، من كفركنا داخل أراضي 48، العائد من زيارة طبية قام بها مؤخراً إلى غزّة رفقة طاقم طبي فلسطيني من الداخل والقدس وخبراء في مجالات مختلفة، برعاية منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان"، إنّه "لم يرَ بؤساً في حياته في أيّ بقعة من العالم كما رأى في غزّة، في ظلّ النواقص، وأنّ الناس مستعدون للأسوأ وقد باتوا في حالة نفسية صعبة في ظلّ حصار خانق والأوضاع على حافة الانفجار". وأضاف: "هذه المرة لمسنا اليأس المطبق نتيجة انعدام أيّ أفق وسمعت الكثيرين يقولون لا بد من حرب وليكن ما يكون لأنّ استمرار الأوضاع الراهنة مستحيل، فالموت أرحم من الحرمان والاضطهاد"، مشيراً إلى أنّ "هذه المرة شعرنا بأنّ هناك بداية مجاعة وشهدنا عدة أشخاص عاديين يفتشون في أوعية القمامة بحثاً عن طعام"، لافتاً إلى أنّه شاهد ذلك بأم عينه في منطقة الميناء.

ويلاحظ متابعون أنّ المتحدث باسم وزارة الصحة في غزّة، الطبيب أشرف القدرة، بات يصدر بشكل أسبوعي تحذيرات من الانهيار في المستشفيات والمراكز الصحية، تارة متحدثًا عن نقص أدوية، وأخرى عن نقص الوقود، وثالثة عن توقف عمال النظافة في المستشفيات، ورابعة عن وقف توريد الطعام للمرضى.

من جهته يشير الصحفي ضياء خليل، في تقرير نشر مؤخراً، أنّ "مشكلة القطاع الصحي لا تتوقف عند هذا الحدّ، بل تطاول المرضى أنفسهم، خصوصاً المصابين بأمراض مستعصية وخطرة، في ظلّ تقليص كبير في عدد التحويلات التي تصدرها السلطة الفلسطينية للمرضى في غزّة لتمكينهم من تلقي العلاج المناسب خارج القطاع، ومن يحصل على التحويلة الطبية تمنعه إسرائيل في الغالب من السفر، أو يُحرم من العلاج نتيجة إغلاق معبر رفح البري".

التضييق على الغزّيين لتمرير "صفقة القرن"

إنّ المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، التي بدأ تطبيق بعض خطواتها فعليًا في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، لم تقدّم أيّ جديد لغزّة. ومنذ بداية العام 2018، لم يُفتح معبر رفح البري إلّا لأيام قليلة، في ظلّ تكدس آلاف الفلسطينيين على جانبي الحدود، والراغبين كحالات إنسانية بالدرجة الأولى بالمغادرة أو العودة، من دون وجود ضغط حقيقي على نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتغيير موقفه من فتح المعبر بانتظام، على الرغم من وعود الإدارة المصرية المتكررة قبل المصالحة بفتحه.

ويرى محللون سياسيون أنّ قيادات فلسطينية في رام الله وغزّة يدركون في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ قضيتنا الوطنية أنّ الضغط على القطاع سيتواصل من كل الأطراف، لأنّ المطلوب قبل عرض "صفقة القرن"، هو (ترويض غزّة) التي يبدو أنّها العثرة الأخيرة في وجه هذه الصفقة المشبوهة، وأنّه من دون استمرار "إلهاء" الغزّيين بأزماتهم وجعل سيناريو تحسين الأوضاع في غزة حاجة ملحة لن تمر "صفقة ترامب".

وكانت صحيفة "هآرتس" العبرية، قد كشفت قبل أيام، أنّ ترامب يعمل على تمرير "الصفقة" بتجنيد الدعم لخطة سلامه المزعوم بأنّ يطلب من دول الخليج استثمار مئات الملايين من الدولارات لتحسين الحياة في غزّة.. حيث تأمل الإدارة الأمريكية في جمع مليار و500 مليون دولار من قطر والسعودية أثناء زيارة جاريد كوشنر، مستشار وصهر الرئيس ترامب ومبعوثه الخاص للمنطقة، وجيسون جرنبيلات المبعوث الخاص الثاني للرئيس الأمريكي في الشرق الأوسط، لقطر والسعودية والأردن ومصر، وهي تشمل مشاريع كبيرة مثل: بناء محطة للطاقة، وميناء بحري، ومحطة للطاقة الشمسية، ومنطقة صناعية، ومصنع مواد بناء، ومحطات تحلية مياه ستنشأ في سيناء لخدمة غزّة. وهذه الخطة بالأساس هي الخطة التي عرضها منسق الأنشطة "الإسرائيلية" في الأراضي الفلسطينية "يوأف مردخاي" في اجتماع في البيت الأبيض في شهر آذار/ مارس الماضي.

لكن رغم كل هذه الآلام والماسي والمؤمرات التي يتعرض لها أهلنا في قطاع غزّة المحتل والمحاصر، إلا أنّ أبناء القطاع يراهنون اليوم على معالجة الملفات الداخلية وحل القضايا العالقة والمعرقلة للمصالحة الوطنية في ظلّ اشتداد الأزمات الداخلية أولاً، وثانياً: فتح الأبواب المغلقة في وجوههم، وأهمها معبر رفح (المنفد البري الوحيد على العالم الخارجي)، غير آبهين بتزايد الضغط الدولي عليهم وعلى منظمة التحرير والرئاسة الفلسطينية لتمرير هذه "الصفقة" التي يرون أنّها ستحرمهم من حقوقهم الوطنية المشروعة وتنهي آمالهم بدولة مستقلة كاملة السيادة.

 

 

خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد