مقدمة:

شهدت الساحة الفلسطينية في الفترة الأخيرة العديد من الاجتهادات الفردية والجماعية الرامية إلى تصحيح مسار الجسم السياسي الفلسطيني، ومنها المبادرة التي أعلن عنها في 1/11/2020، الداعية إلى عقد مؤتمر تحت عنوان المسار الفلسطيني البَديلْ في مدينة مدريد الإسبانية من تاريخ 31/10 إلى 2/11 من العام 2021. إذ اختار القائمون على المؤتمر تاريخ ومكان انعقاد مؤتمرهم المذكور كي يتوافق مع ذكرى ومكان انعقاد "مؤتمر مدريد للسلام"، الذي كان وفقاً لهم بداية الطريق نحو أوسلو، وأيضا لتتوافق نهاية المؤتمر أي يوم 2/11 مع ذكرى وعد بلفور المشؤوم، الذي يودون إحياءه عبر مسيرة شعبية حاشدة تتوجه نحو السفارة البريطانية، تحت عنوان" لن يمر مشروعكم الاستعماري في فلسطين...لن ننسى ولن نغفر!".

لذا وانطلاقاً من هذه الدعوة أولاً، ومن حاجة القضية الفلسطينية الملحة إلى مسار بديل حقيقي ثانيا، كان لابد من التوقف عند هذه الدعوة، ومن تحليليها وتفكيكها علميا بدقة وموضوعية ومن زاوية وطنية بحتة، الأمر الذي آمل أن تقاربه هذه الدراسة، وتساهم في دفع الجهود الوطنية المبذولة بهدف معالجة أخطاء الجسم السياسي الفلسطيني، وبغرض إعادة رسم خط النضال الفلسطيني التحرري على أسس وطنية أولاً، وعلمية ثانياً، وجذرية ثالثاً، أي بما يضمن استعادة مجمل الحقوق الفلسطينية ويؤسس لمرحلة تاريخية جديدة، تحظى فيها فلسطين دولة وشعبا بحياة حرة كريمة إنسانية متطورة وعادلة، دون أي شكل من أشكال التمييز أو الاستغلال أو الظلم. كما تتطلع الدراسة إلى تسليط الضوء على جميع مواضع الخلل الواردة في المبادرة المذكورة، وتبيانها للقارئ والمتابع والمعني بقضية فلسطين وبالحق الإنساني والوطني عموما.

كما أود الإشارة أخيراً إلى توقيت كتابة هذه الدراسة، بعد مضي قرابة سبعة أشهر على إطلاق المبادرة، وقبل نحو خمسة أشهر على عقد المؤتمر، أولا: بعد منح لجنة المؤتمر التحضيرية وأصحاب المبادرة وقتا كافياً لمراجعة أخطائهم وسهواتهم وعثراتهم ومعالجتها. وثانياً: بغرض منحهم فرصة ومدة زمنية كافية من أجل معالجة وتجاوز الأخطاء أو الثغرات المشار إليها هنا قبل انعقاد المؤتمر. وثالثاً: بعد اندلاع انتفاضة كل فلسطين التي أعادت إحياء القضية والرواية الفلسطينية التاريخية، واستعادة ركائز المشروع التحرري الأساسية المتمثلة في وحدة الشعب والأرض والقضية. كما سوف نقسم الدراسة إلى قسمين، يعنى القسم الأول منها بتحليل الدعوة من حيث مضمونها وتوقيتها وأهدافها، في حين يُعنى القسم الثاني بتحليل المواقف التي أصدرتها المبادرة بشأن جملة من المسألة ذات الارتباط بالشأن الفلسطيني.

القسم الأول: مضمون المبادرة وآليات عملها

  • الشكل والمضمون والكلام المعسول:

تكثر العبارات والشعارات البراقة المتضمنة في نص البيان الأول، أو بيان الدعوة، كما نجدها في عنوان المؤتمر وفي غالبية النصوص الصادرة عن لجنة المؤتمر التحضيرية، وإن لم تخل من استعادة كلاسيكيات الخطاب القديم، التي قد لا تعني بالضرورة مأخذا سلبيا عليها، خصوصا إذا لم تستعد أيضا ذات البنية المتحجرة والقسرية والأبوية. بل وترسل فكرة المؤتمر ومكان انعقاده وتاريخه مجموعة من الرسائل الإيجابية إلى غالبية متلقي الدعوة ومتابعيها. وهو ما يضع المبادرة أمام الامتحان الأول، امتحان الشكل والمضمون، بمعنى هل يتطابق شكل وعنوان المبادرة البراق مع مضمونها؟ أم عكس ذلك أو أننا أمام حالة وسطية يتطابق شكلها مع مضمونها أحيانا ويتناقض في أحيان أو مواضع أخرى؟

فمن حيث المبدأ وقبل الغوص كثيراً في التفاصيل، يحق لنا التساؤل عن المشاركين، أو بالأصح عمن يستطيع المشاركة في المؤتمر، وهو ما يحيلنا إلى مكان انعقاد المؤتمر تحديداً، أوروبا- إسبانيا- مدريد، الأمر الذي يوجه الأنظار نحو اللاجئ الفلسطيني عموما؛ ولمحدودي الدخل أو ذوي الدخل المتوسط تحديدا، من غير المقيمين في الدول المتقدمة مثل أوروبا وأمريكا وكندا، والذين لا يحملون جواز سفر عابر للقارات، كيف لهم انتزاع ختم الفيزا الإسبانية وتأمين تكاليف السفر والإقامة إلى في مدريد؟، طبعا سوف يتضاعف حجم صعوبة أو بالأصح استحالة الموضوع أمام  جميع أو غالبية اللاجئين المقيمين في دول الطوق من سورية ولبنان والعراق ومصر ونسبياً الأردن، وكذلك ممن يقيمون داخل فلسطين وبالتحديد في قطاع غزة المحاصر.

من هذه الزاوية العملية فقط وقبل الانتقال إلى غيرها، يحق لنا التساؤل: كيف يمتلك القائمون على الدعوة هذه الثقة المفرطة في اعتبار مؤتمرهم متوافقا مع عنوانه " مؤتمر كل فلسطين، كل الشعب، كل الحقوق.. البديل الوطنيّ الشعبي والديمقراطي"؟! طبعا لن أجادل ولن أحمل الدعوة وزر نتائج المؤتمر إن عقد أصلا منذ الآن، لكن من حقي ومن حق كل فلسطيني التساؤل عن مدى المشاركة الشعبية الفلسطينية في مؤتمر يعقد داخل إسبانيا وفي مدريد تحديداً، كما يحق لي التساؤل عن حق عشرة أو مئة أو عشرة آلاف بل ومليون مشارك في هذا المؤتمر في تمثيل الكل الفلسطيني، واعتباره بديلا ديمقراطيا يعكس إرادة مجمل أو غالبية الشعب الفلسطيني. ألا تنتمي هذه الممارسة إلى ذات ممارسات الجسم السياسي الفلسطيني الإقصائية، التي تصادر الرأي الشعبي وتحتكر الحق في تمثيل الشارع الفلسطيني، بل وتحتكر المجال العام والفضاء الاجتماعي والسياسي داخل وخارج فلسطين، عبر العديد من الأدوات والوسائل القمعية أحيانا، ومن خلال الاستعانة باستبدادية الأنظمة المضيفة في أحيان أخرى، وعبر استغلال حاجات الفلسطينيين اليومية غالبا، بعدما استحوذت على مصادر التمويل والتبرعات واستغلتها أسوأ استغلال.

طبعا أدرك كما يدرك الجميع استحالة عقد مثل هذا المؤتمر؛ دون تدخلات حكومية؛ في أي من دول المنطقة في الوقت الراهن، وبالتالي لست متوهما بذلك، ولا أحمل أصحاب الدعوة مسؤولية ذلك، بقدر ما أود تسليط الضوء على مسألتين بنيويتين وأساسيتين، الأولى هي ادعاء تمثيل المؤتمر كامل الشعب الفلسطيني دون البحث في آليات تضمن ذلك، وكأن مشاركة مجموعة من الفلسطينيين كافية للترويج لهذا الادعاء. والثانية تحويل المؤتمر إلى الأداة والوسيلة الوحيدة للتغيير رغم محدودية المشاركة به، وقصر مدته الزمنية، ورغم الخلل البنيوي في التحضير له، حيث يصر أصحاب الدعوة على فرض نمط وتوجه محدد خاص بهم دون المجاهرة بذلك، أو بالأصح مع ادعاء انفتاحهم على أي طرح تحرري يلبي جميع الحقوق الفلسطينية، في حين نجدهم يدورون في حلقة مفرغة مرسومة مسبقا، ويصرون على رفض الآخر المختلف عنهم فكريا أو إجرائيا. فتحديد مسار المؤتمر حق لهم كما لغيرهم، بشرط مصارحة الشارع الفلسطيني بذلك، بدلا من ادعاء الانفتاح على كل الطروحات والاستعداد إلى سماعها ونقاشها، وترك مسألة حسمها إلى المؤتمر عبر التصويت عليها. أي لو عبر معدو المؤتمر عن برنامج مؤتمرهم بشكل واضح ودعوا المتوافقين معهم إلى المشاركة الفعالة، لما نقدنا هذه الجزئية. لكن وكونهم يدعون أنه مؤتمر الكل الفلسطيني ويطالبون كل المعنيين بالحق والنضال الفلسطيني بالتفاعل والمشاركة وإبداء الرأي، عندها يحق لنا نقد استبدادية واقصائية وأحادية معدي المؤتمر. فهذه الآلية تعد استعادة لذات آليات الفصائل والقوى الفلسطينية ولاسيما المهيمنة منها، التي تدعي تمثيل الشارع الفلسطيني أو الكل الفلسطيني بقوة إعلامها ومصادرها المالية؛ دون التقليل من حجم مؤيديها طبعا؛ انطلاقا من تمثيلها مصالح فئات وشرائح محددة ومحدودة.

  • الديمقراطية الموجهة:

انطلاقا من الفقرة الأخيرة يجب التمعن في المعايير الديمقراطية المتبعة في هذا المؤتمر والمعلن عنها على صفحة المسار البديل بشكل واضح، من خلال بوابة اللائحة التنظيمية، حيث يمكن أن نفهم من هذه اللائحة مدى متانة أو هشاشة العملية الديمقراطية المفترضة. إذ يمتد المؤتمر على مدار ثلاثة أيام متواصلة، يتخللها ندوات ومحاضرات وربما نشاطات أخرى، فضلا عن حق أصحاب المقترحات في عرضها على المؤتمرين، ويتبعها تقسيم عمل المؤتمر إلى لجان متعددة ومتخصصة، تعمل على التوازي فيما بينها أثناء أيام المؤتمر الثلاثة، ويتم ضمنها نقاش المقترحات والتقارير وتقديم الاقتراحات في الجلسات العامة المخصصة لذلك.

إذا يبدو من هذا التصور وكأن المؤتمر هو البيئة والمناخ الديمقراطي الضروري لأي عملية ديمقراطية، فهو مساحة حرة يسمح لجميع المشاركين فيه بطرح رؤاهم وأفكارهم والدفاع عنها وترويجها ومجابهة ناقديهم الموضوعيين وغير الموضوعيين، يا لها من صورة مثالية خادعة!!! فكما أشرنا سابقا يتجاهل المؤتمر محدودية عدد المؤتمرين مقارنة بمجمل تعداد شعب فلسطين؛ ما يوحي بخديعة الأجواء الديمقراطية والحرية والحوار المشتهاة. لكن هل هذه الإشكالية الوحيدة ديمقراطيا؟ وهل المؤتمر تجسيد حقيقي لمعاني حرية الرأي والتعبير والنشاط والعمل السياسي؟ أم يكمن الشيطان الإقصائي والاستبدادي في التفاصيل؟

يسهل على أي مدقق في تفاصيل اللائحة التنظيمية التيقن من خوائها وخلوها من أي بنية ديمقراطية حقيقة، فالمؤتمر مدته النظرية ثلاثة أيام فقط، أما مدته العملية فلا تتجاوز الـ 24 ساعة، إن حسبنا ساعات النوم بوسطي 8 ساعات يوميا، وساعات النقاهة والاستراحة والطعام التي تصل إلى قرابة 6 ساعات يوميا، ومدة ندوات ومحاضرات الأعضاء المراقبين (ضيوف المؤتمر من المناضلين/ات الأمميين الداعمين لنضال الشعب الفلسطيني) التي لن تقل عن 3 ساعات يوميا. ليصبح أمام المؤتمرين أقل من 24 ساعة من أجل الدفاع والترويج لأفكارهم الثورية البديلة، وتكوين اللجان ونقاش القضايا التفصيلية ضمن كل لجنة وصياغة ورقة عن كل لجنة، وعملية التصويت والفرز وعشرات المهام التقنية الأخرى. وعليه لا يتسع المؤتمر؛ ولن يتسع؛ لتداول الأفكار والآليات والمقترحات حتى لو انحصرت في أربع خيارات فقط، فالوقت المتاح لا يكفي لتفنيد الانتقادات والتدقيق في الصياغات والعمل على تطويرها في أثناء المؤتمر!!

إذ أعتقد أن المؤتمر؛ أي مؤتمر كان؛ هو عبارة عن حصيلة عملية ديمقراطية طويلة تسبقه وتمهد الطريق نحوه، تشهد عرض مجمل المقترحات ونقاشها وفق آليات ديمقراطية حرة تسبق انعقاد المؤتمر، وتتيح المجال أمام أصحاب المقترحات لتطويرها وتحسينها وتلافي عيوبها المحتملة، تنظيمية كانت أم سياسية أم لغوية، فضلا عن التزامها بمعايير الشفافية والمكاشفة التي تتيح للجميع سهولة الاطلاع على كامل المعلومات والترتيبات المالية والسياسية والتنظيمية. في حين يصر أصحاب الدعوة على حصر كل ذلك في مؤتمر لن يتجاوز عمليا الـ 24 ساعة، بل وأكثر من ذلك يهيمن أعضاء اللجنة التحضيرية وبالتحديد أصحاب الفكرة على غالبية الندوات التي تسبق عقد المؤتمر، مستغلين هذه الندوات التحضيرية في بث آرائهم بكل حرية واستفراد، دون أي مساحة للرأي الآخر المعارض والرافض لمسار الاستسلام والتنازل والذي يحمل في طياته مشروعا بديلا، أو على الأقل ملامح مشروع بديل. أي تم ويتم تغييب الصوت النقدي المختلف عن توجهات منظمي المؤتمر، حتى من أختلف معهم بالرأي وتوافق معهم في الأهداف، وهي ممارسة تعكس هيمنة وتسلط منطق أحادي يدعي الديمقراطية وينحو إلى نقيضها، وتكرس فكرة المؤتمر الإقصائية والتسلطية على اعتباره وسيلة لنشر رأي وفكر ورؤية محددة ووحيدة منذ اليوم الأول لإطلاق دعوة المؤتمر.

إنني لا أجد أي عيب أخلاقي أو سياسي أو حقوقي في تبني المؤتمر فكرا واضحا ومحددا منذ اليوم الأول، بقدر ما يكمن العيب والخلل في إخفاء ذلك، وتصويره كملتقى مفتوح أمام الجميع ويخضع لقرار الجميع، وفي التحايل على الشارع الفلسطيني بعناوين وشعارات براقة، توهم المتابع بأن المؤتمر حاجة فلسطينية لتبادل الآراء والأفكار الثورية في خضمه بغرض الانتهاء إلى أفضل النتائج الممكنة في ختامه، بينما يُسيّر بضعة أشخاص كل ما يرتبط بعملية التحضير، وفق السياق الذي يخدم رؤيتهم وحدهم، وبما يضمن نتيجة المؤتمر النهائية عبر ضبط المشاركين ومنح طرحهم أفضلية على أي طرح آخر من حيث زمن نقاشه وكمية وعدد المواد التي تتحدث عنه، على مدار عام كامل يسبق المؤتمر ذاته. وعليه وللأسف يبدو لي أن المؤتمر المشار إليه هو امتداد لذات العقلية الإقصائية الفصائلية المتفردة، التي تعتقد ذاتها أذكى من الشارع الذي تدعي تمثيله، والتي تتعمد مراوغته والتحايل عليه حتى تنال ما تبتغيه ومن ثم تنساه وتنسى قضاياه.

  • وضوح الطرح أم غموضه:
    من البديهي في أي دعوة عامة موجهة بغرض المشاركة في نشاط سياسي، أن تتضمن شرحا كافيا ووافيا عن هدف المشاركة وطبيعتها وآلياتها وآفاقها المستقبلية، وهو ما سوف نحاول التمعن به في هذه الجزء. حيث نجح القائمون على المؤتمر في توضيح هدف ومكان عقد المؤتمر، وذلك في متن بيان دعوة المشاركة وعبر نافذة أهداف المؤتمر. لكن وبذات الوقت نجد في أهداف المؤتمر طرحا فضفاضا ومشوشا يبدو متعمداً، إذ تركز الأهداف على موضوع أوسلو وإفرازاته وكأنه نقطة التحول الأولى، أي لو لم يكن أوسلو لما احتجنا اليوم إلى مسار بديل، وهو بتقديري مؤشر خطير ومقلق على توافق اللجنة التحضيرية مع مرحلة ما قبل أوسلو، بكل مؤشراتها الممهدة لأسلو وما بعد أوسلو، وبالتحديد مع البرنامج المرحلي.

فإن عدنا إلى بيان دعوة المشاركة نجد فقرة ذات أفكار مهمة وحيوية ومركزية لكنها للأسف مهمشة في جل أوراق المؤتمر، وبالأخص في قائمة أهدافه، تقول" ويُدرك شعبنا الفلسطيني اليوم، على ضَوء هذه التجربة الطويلة والمريرة، أن حالة التصدُّع والانهيار التي أصابت المؤسّسة الفلسطينية الرّسمية (م. ت. ف) كانت في الواقع مُحصّلة سياسات رسميّة فلسطينيّة وعربية ودولية بدأتْ بالدعوة إلى مؤتمر جنيف 1973 وتبني قيادة م. ت. ف ما يسمّى مشروع “الدولة الفلسطينية” وبرنامج النقاط العشر 1974"، حيث توضح هذه الفقرة أحد أهم وأخطر المنعطفات في تاريخ النضال الفلسطيني، بل وتحدد السبب الكامن خلف أوسلو وإفرازاته، أي البرنامج المرحلي. فيما تتعمد اللجنة التحضيرية عدم تضمين موقف واضح من البرنامج المرحلي، عبر المراوغة، والأهم عبر إهمال تضمينه في أهداف المؤتمر، ولو على شكل المطالبة بإلغاء البرنامج المرحلي المسؤول عن فقدان البوصلة والانحراف والتنازل عن الحق الفلسطيني في أوسلو وما تبعها.

إذ تخلو أهداف المؤتمر السبع من أي بند يستهدف حل جذر المشكلة الفلسطينية السياسية؛ البرنامج المرحلي؛ وهو ما يثير الشكوك حول نية اللجنة التحضيرية وأصحاب الدعوة في إعادة تعويم البرنامج المرحلي، انطلاقا من ذات التحريف الذي صاحب إقراره، والقائل بأنه لا يقلص مساحة فلسطين التاريخية، ولا يسعى إلى الإقرار والاعتراف بقرار التقسيم، وبأنه مجرد إجراء تنظيمي يعمل على تنظيم النضال الفلسطيني بعد أو في حال تم تحرير جزء من أرض فلسطين. حيث يؤدي تعمد تجاهل ذكر البرنامج المرحلي بشكل واضح، إلى التفكير في المعاني المخفية ضمن الأسطر، وهو ما ينطبق على الفقرة الرابعة من وثيقة الأسس النضالية القائلة" أيُّ تعديل على هذا الميثاق يمسّ التحريرَ الكاملَ والعودةَ الكاملةَ يُعتبر باطلًا ولاغيًا ومرفوضًا." جملة جميلة وحافلة بالمعاني، لكنها تفتقد إلى الدقة والوضوح، فما هي التعديلات التي تمس التحرير الكامل والعودة الكاملة؟ أو بدقة أكثر هل يتوافق القائمون على المؤتمر مع تفسير البرنامج المرحلي من قبل حركة فتح في سبعينات القرن الماضي، ومن قبل الجبهة الشعبية بعد انسحابها من جبهة الرفض، المذكور قبل قليل؟ وهل يعتقد القائمون على المؤتمر أن النضال الفلسطيني مرحلي يمر عبر تحرير الأراضي المحتلة عام 1967، ومن ثم لكل حادث حديث؟

بل يضع البند الخامس من ذات الوثيقة المزيد من الشكوك حول المقاصد الخفية، نظرا لوضوحه ودقته تجاه مسار مدريد وأوسلو بقوله" كلّ الاتفاقيات والتفاهمات والتسويات منذ مؤتمر مدريد (1991) تُعتبر باطلةً ولاغيةً ومرفوضة." إذا لا مجال للمراوغة هنا، بل هناك شمولية تستهدف مجمل النهج الاستسلامي منذ مدريد فقط، وكأن البرنامج المرحلي أمر آخر، لا علاقة له بما تلاه، فهو لم يمهد الطريق أمام مسار التنازل، كما لم يقسم الشارع والشعب ويجزء القضية ويحرفها عن روايتها التاريخية، وفق ما يفهم من نصوصهم طبعا.

أما بما يخص الآليات، نجد الكثير من الوثائق والأوراق والفقرات التي تتحدث عنها، ولكن سيبني القائمون على المؤتمر جل آلياتهم وآليات صناعة مسار بديل أثناء أيام المؤتمر الثلاث، أو بالأصح على ساعاته الفعلية ال 24 فقط كما أشرت سابقا.

أما على مستوى آفاق المؤتمر فنجد منحى إشكاليا يستحق تسليط الضوء، لأن الدعوة تنطلق من بناء نهج بديل عن النهج الحالي، مختلف تماما من حيث الهدف والمسار. لذلك تسلط اللجنة التحضيرية ومعدو المؤتمر جل سهامهم النقدية على المتنفذين في منظمة التحرير، وعلى المسيطرين في السلطة الوطنية، المشار إليهم عادة بفريق أوسلو، وكأنهم يحصرون المشكلة والخلل الذاتي؛ الفلسطيني؛ في فريق أوسلو فقط. أي يتجنبون تحميل أي مسؤولية أخرى إلى سائر مكونات الجسم السياسي الفلسطيني، ولاسيما القوى والفصائل والشخصيات التي مهدت الطريق أمام فريق أوسلو، وأيضا من سار مع فريق أوسلو في هذا المسار التنازلي الكارثي.

وإذ اتفق مع تحميل فريق أوسلو المسؤولية الأكبر عن الوضع الراهن وعن فقدان بوصلة النضال الفلسطيني وحرفها، إلا أنني أتساءل ماذا بشأن باقي مكونات الجسم السياسي الفلسطيني عموما ومنظمة التحرير خصوصا؟ ولاسيما الجبهتين الديمقراطية والشعبية، اللتين انخرطتا في مسار أوسلو عمليا، بعيدا عن بعض البيانات المنددة به بين الحين والآخر، وماذا عن المسؤولية الأمنية والسياسية الكامنة في الكشف عن أسماء المناضلين والمقاومين داخل الأراضي المحتلة في العام 1967؟ التي كانت أحد شروط فريق أوسلو أو بالأصح الاحتلال الصهيوني، وما هي مسؤولية الجبهة الشعبية عن انتقال أمينها السابق أبو علي مصطفى (الذي اغتيل داخل مكتبه) إلى داخل مناطق السلطة بموافقة صهيونية؟ وكيف تم الحصول على الموافقة الصهيونية بذلك؟ وما هي معانيها السياسية؟ وماذا بشأن المشاركة في انتخابات السلطة، وفق قوانين السلطة وأوسلو التي تستثني غالبية شعب وأرض فلسطين؟ وماذا بشأن لهاث غالبية فصائل المنظمة خلف المشاركة في حكومة السلطة؟ ومن منا لا يعرف وظيفة حكومة السلطة، حتى لو تستر مطلب حكومة الوحدة بشعارات خادعة تدعي ترسيخ الوحدة الوطنية، فهل أضحت أوسلو وإفرازاتها هي المعبر عن وحدة الجسم السياسي الفلسطيني الصحيح والوحيد، دون أي اكتراث بالمسار والهدف، وما الفائدة من منظمة التحرير عندها!! وماذا بشأن من يتفاخر بصياغته البرنامج المرحلي؟ وماذا بشأن هرولة حماس خلف سلطة وهمية في الضفة وغزة أولا عبر المشاركة في الانتخابات، وعبر سيطرتها على غزة لاحقا من خلال القوة المالية والعسكرية؟ وعشرات الأسئلة الأخرى حول مسؤولية كامل مكونات الجسم السياسي الفلسطيني في تكريس أوسلو وإفرازاتها، عبر المشاركة المباشرة أو غير المباشرة. فحرف البوصلة مسؤولية جماعية يتحملها جل الجسم السياسي الفلسطيني بمجمل فصائله المشاركة والمنضوية وغير المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية، أو في هياكل السلطة الناتجة عن أوسلو. وعليه يصبح الإصرار على تضييق العدسة النقدية وحصر هدف التغيير في فريق أوسلو، مجرد مساومات وابتزازات خادعة ومضللة سوف تنتهي غالبا إلى الحفاظ على ذات النهج وإن خف تسارعه تحت قيادة مجموعة مغايرة.

حيان جابر - صحفي فلسطيني

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد