تقرير: يحيى موسى – غزة
 

بقي لحظات لرحيل الشمس. لحظات ويختفي قرصها المتوهج متسللاً وراء الأفق، رويدا رويدا، تسحب جدائلها عن شرقي غزة، اللاجئة الخمسينية، مريم أبو موسى، من قطاع غزة كذلك تنسحب بخطواتها للوراء، عائدة من الصفوف الأمامية للمتظاهرين السلميين بمسيرات العودة وكسر الحصار. لا تبعد عن السياج الفاصل مع الاحتلال الإسرائيلي سوى عشرات الأمتار، تغيب أحلامها مع غروب شمس كل جمعة، ولكن يتجدد حلم العودة إلى بلدتها الأصلية "بئر السبع"، كل صباح.

قطعت أبو موسى مسافة من مخيم "بلوك G" للاجئين بمحافظة خان يونس، وجاءت للمشاركة في مسيرة العودة بمخيم ملكة شرق غزة، تتلمس الطريق لعلها تجد ثغرة تستطيع من خلالها اجتياز السلك الفاصل والذهاب نحو بئر السبع.

تحمل علم فلسطين تتوشح بالكوفية، ترتدي الثوب التراثي الفلسطيني البدوي، حينما تدقق النظر فيه يجذبك الورود، والطيور، والأشجار، والجِمَال المطرزة عليه تعبر عن العادات البدوية، لو تحدث الثوب عن نفسه لوصف كيف كان يعيش البدو قبل عام 1948م.

تغطي وجهها بـ "البرقع" تزينه الأشكال المطرزة، وليرات لامعة ملونة بألوان الفضة والذهب تعكس الوجه الآخر لأشعة الشمس، تتلألأ بين الخرز الذي يشاركها في زينة "البدوي"، تمسك علم فلسطين بيدها اليمنى تتشبث به، في ذات اليد تمسك عصا على كتفها حاملة صرّة على ظهرها تضم أغراضها الضرورية التي ستعود بها إلى بلدتها الأصلية، وعلى صدرها تعلق مفتاح العودة.

هكذا تحمل اللاجئة أبو موسى، تراثها البدوي، كما كانت المرأة البدوية الفلسطينية تعيش نسقا من البساطة والتشبث بالأرض وتحدي الاحتلال، والتي كانت تجمع الحطب وتصنع حياتها، وتحصد القمح.

"من أول يوم انطلقت مسيرات العودة، لم أتخاذل أو أتراجع عن مسيرتي بالعودة، لأنها حقي أن أسكن قريتي لأعيش فيها مع أهلي وأولادي، أتجول الحدود من خزاعة حتى حدود البريج وملكة بغزة، لعلي أجد منفذاً لأدخل إلى بلدتي بئر السبع، وأكحل عيني برؤياها، حلم كل فلسطيني أن يعود إلى أرضه"، تبدأ حديثها.

منذ اليوم الأول، يزيد تصميمها على العودة، مهما مضى من الوقت ومرور الجُمع فهي تدرك أنها "راجعة إلى بئر السبع"، قائلة: "مَن يراهن على أن الفلسطينيين لن يعودوا إلى بلادهم، أتحداهم بكلمتين بدويتين: "سيف الحق لا بد يرجع لصحابه .. ما يضيع حق وراه مطالب، وغير أكحل عنيّه بشوفت (رؤية) الأقصى، وأطلق الزغاريد بتحرير الأسرى".

عادت بخطواتها للخلف، المسافة ليست بعيدة عن بلدتها الأصلية، تتأمل بنظراتها نحو البلدات المحتلة، خضار وأشجار، ومحاصيل ومناطق زراعية شاسعة، مشهد غير موجود في داخل القطاع ذو الكثافة السكانية العالية، أجبرها على إخراج تنهيدة ألم: "حينما أقف على الحدود وأنظر إلى بئر السبع، كل السدود والدبابات أراهم مثل النملة، لن تمنعني".

كفتاة صغيرة تمشي بخطواتها تغني بين النسوة بخطوات متسارعة وكأنها ترقص في غمرة فرح كانت السعادة واضحة بنبرة صوتها وإن غطى البرقع ملامح وجهها: "راجع راجع عبلادي .. والأسير حيا الله والمسرى وحياة الله، ليرجع على إيدينا ونحرر بيت المقدس يلا، زغريتي يا نشمية يا نشامى الوطن حيا الله".

من الغناء إلى الشعارات بعد أن تجمع حولها الشبان الثائرون وبعض النسوة تقبض بكفة يدها اليمنى تردد: "رحنا راس وجينا راس واحنا كبار الحمولة .. واحنا أرعبنا اليهود لقدسنا الأبية".
 

اليوم الأول

"كانت المعنويات عالية؛ الملامح شاخصة كان الحلم كبيراً جداً ونسبة تحقيقه كبيرة، تعتقد أنك ستعود إلى فلسطين بعد حصار ومعاناة كلاجئين، جهزت نفسي مسبقاً، وارتديت ملابس رحلتي لأعود لمنطقة أهلي في مدينة بئر السبع وتسمى (العمارة)" .. بعد نحو عام ونصف العام على انطلاق مسيرات العودة، لا زال يوم 30 مارس/ أذار 2018، يسكن ذاكرتها يوم أن انطلقت مسيرات العودة وكسر الحصار في قطاع غزة.

امتد الجذر السبعاوي في نفسها، وكأنها تعيش نفس اليوم: "حملت ملابسي وكفني، وذهبت إلى نقطة تجمع المتظاهرين بمخيم العودة شرق محافظة خان يونس .. بدأ الحلم يكبر، اقتربنا من الحدود، كان الأمل يتفتح كالزهور، لقد حملني الأمل إلى السياج الفاصل، من شدة فرحتي جلست على الأرض وتجمهر حولي الناس؛ أنادي على القبائل السبعاوية".

يومها الساعة الخامسة والنصف عصراً، جلست تردد أغاني وطنية وشعبية مع المتجمهرين، كانت الفرحة تغمر قلبها، قبل أن تفسد رصاصات جنود الاحتلال الإسرائيلي وقنابل الغاز هذه الأجواء، تساقطت القنابل كزخات المطر، مع رصاص كثيف استهدف المتظاهرين، تلقت بصدرها شظية قنبلة ونقلت على إثرها لتلقي العلاج، تتوقف بكلامها هنا: "مكثت بالمشفى أربعة أيام؛ لكني عدت للمشاركة بالمسيرات بالجمعة التالية، كي أرسل رسالة للاحتلال: أنك مهما تركت فينا من آلام لن تكبح جماحنا".

ضمدت أبو موسى جراحها لعلها تتلمس منفذاً لبئر السبع من تحت السياج الفاصل شرق غزة أو من فوقه، أو من بوابته، لكن لم تكن الأمور كما تمنت: "لم يحترم الاحتلال حقوق الإنسان كعادته، قام جنوده بقتلنا، كانوا يطلقون الرصاص علينا: أطفال، كبار، نساء،  لكننا لم نفقد الأمل حتى اللحظة".

من على مقربة من السياج تستذكر بئر السبع: "كانت أرض زراعية، حتى بعد هجرتنا عاد أبي للعمل فيها، وكان يحضر من ثمارها وخيراتها، لكن بعد حرب 1967م احتل قطاع غزة  وأصبح منطقة محظورة، اليوم قررنا نحن الأبناء العودة إلى ديارنا".

"هذه أرضنا أرض خير، أرض بركة كنا نخبز الصاج والطابون ونطحن القمح، نأكل من بيتنا، رمونا لاجئين وحاصرونا" .. يختلط صوتها بالألم.

مطلقة العنان لصوتها وأشعارها، كشاعر على خشبة مسرح:

"يا من صفعتنا بصفقة القرن تمهـل

مررت بــــــإحدى طرقات  القدس

فوجدت قطعا من الضاد مبعثــرة

قـــــــــــــــلت ما بك يا ضــــــاد

قالت جرحي النازف يقتلنــــــــي

حـــــروفي مبعثرة تعاتبنــــــــــــي

لمــــــــــــــــــا اليتـــــم يغشانـــــي

لا ســــــــــائل ولا مســــــــــــؤول

ولا فــــــــــــاعل ولا مفعــــــــــول

كل محذوف ككان مع اسمها بعد لو"


 

مواقف لا تنسى

مواقف كثيرة مرت عليها خلال مشاركتها بمسيرات العودة، تنتقي واحدا منها، فذلك اليوم لا تنساه: "جاء الصحفي ياسر مرتجى من غزة ليقوم بالتقاط صور لي شرق خان يونس وبعد أن رد علي التحية قال: جئت من غزة لأجري لقاء معك، لكنه عند اللقاء لم يمش خطوتين للأمام حتى قنصه جنود الاحتلال واستشهد، كان إنساناً يعشق الحياة، وقبل أن تستشهد المسعفة رزان النجار بنصف ساعة أمطرتنا قوات الاحتلال بقنابل غاز ويومها كسرت أصابعي بعدما سقطت على الأرض".

لكن ذلك الطفل أنزل دمعتها على خدها حينما سألها: "إذا رايحة على بير السبع سلميلي على جدتي وعمتي هما هناك"، ثم أتبعها بسؤال آخر: وكتيش حتصلي هناك"، سؤال طفولي تدرك أن الإجابة عليه صعبة وأن الطريق إلى بئر السبع الآن مستحيلة لكنها تمشي وراء أشواقها.

"ألا تخشين أن يتم قتلك هنا؟".. إجابة الواثق بنفسه: "علمني أبي الشجاعة بأن أكون بالصفوف الأولى، وإيماني القوي بعدالة قضيتي يمنحني القوة وعدم الشعور بالخوف".

 تشتم أبو موسى رائحة بئر السبع من على السياج الحدودي لغزة، ولهذا حكاية، فتقول: "أعشق الطبيعة، ورائحة بلادي وأرضي، عندما أقف قرب السياج الفاصل فإن الشعور لا يوصف، عند مغيب الشمس أشعر بكآبة، لا أريد العودة وكأن شيئا يشدني لأبقى لعل وعسى أعبر السياج".

"حتى لو جاءتك رصاصة وأنت هكذا ستموت وأنت مرتاح، هنا تعز علي نفسي، كيف أترك أرضي للمستوطنين، فحق الإنسان لم أحصل عليه، يضحكون علينا بكابونة "المؤن"، ونسونا، ثم حرقونا بصفقة القرن، لكن هم يعلمون أنه إن بقي العظم فإن اللحم يجود، وإن جعلوا الشعب الفلسطيني هيكلاً عظمياً سيرجع اللحم وسيرجع حبنا لفلسطين".

تشير نحو ثكنات جنود الاحتلال "هؤلاء يتحصنون داخل التلال الترابية ويقومون بزرع الموت وقتلنا، لكننا نزرع الحب والحياة لنعود إلى أرضنا (..) كنا نزرع القمح والشعير والتين والزيتون في بئر السبع لكن الاحتلال زرع مفاعيل ديمونا ويصنعون القنابل التي يقتلون بها الشعب الفلسطيني.

 

شاهد الفيديو:

 

خاص

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد