وسام سباعنة

ينسب إلى المدير العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان "سلفاتوري لومباردو قوله:"لا يسعني التفكير في مستقبل للفلسطينيين من دون التفكير في الأونروا؛ فإلى أن يتم إيجاد حل عادل للقضية، فإن الأونروا تُعتبر ضرورية لتقديم الخدمات الأساسية". وهو يرى أن غياب الأونروا "سيعني وضعاً مأساوياً للاجئين" ولذلك "يجب القيام بكل شيء للحؤول دون وقوع ذلك." تعكس عبارات السيد "لومباردو" هذه، توصيفاً لحال الارتباط الوثيق بين قضية اللجوء الفلسطيني، وبين وظيفة الأونروا ومهماتها، لكنها في الوقت نفسه تكشف عن ذلك النوع من المخاوف العميقة لدى كثيرين ممّا يتهدد هذه المنظمة الدولية التي أُوجدت مع نشوء قضية اللاجئين الفلسطينيين. ومن هؤلاء الموظفين الدوليين أنفسهم، والذين هم على تماس مباشر مع أوضاع اللاجئين الفلسطينيين.

أُنشئت الأونروا بعد أكثر من عام على نكبة فلسطين، للتعامل مع قضية اللاجئين واستيعاب نتائج التهجير والطرد اللذين تعرض لهما الفلسطينيون، ليجدوا أنفسهم في خيم اللجوء داخل فلسطين وخارجها. ومن غير الخوض في كثير من التفصيلات المعروفة، يجب التوقف عند طبيعة المهمة التي أُسندت من قبل الأمم المتحدة، لـ "وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين"؛ فالمهمة تتضح في هذا الاسم الوصفي الذي عنى بالنسبة إلى كثيرين العمل على "دمج المهاجرين في المجتمعات المضيفة"، أو ما أُطلق عليه لاحقاً لفظ "التوطين". لكن مهمة الوكالة برزت في العمل ذي الطابع الإنساني بعيداً عن الوظيفة السياسية، بينما تجسد البعد السياسي لقضية اللاجئين من خلال القرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة في أواخر سنة 1948، والذي نص على حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، ودعا إلى "إنشاء لجنة توفيق تابعة للأمم المتحدة، وتقرير وضع القدس في نظام دولي دائم، وتقرير حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم في سبيل تعديل الأوضاع، بحيث تؤدي إلى تحقيق السلام في فلسطين في المستقبل.

من المعروف أن دولة "إسرائيل" التي وُجدت نتيجة قرار دولي صادر عن منظمة الأمم المتحدة ذاتها، والتي اشترطت للاعتراف بها، تنفيذ القرارات الدولية، رفضت التعامل مع أي من هذه القرارات، وخصوصاً القرار 194. كما أنّه من المعروف أيضاً، أن اللاجئين الفلسطينيين، قاوموا بصلابة منقطعة النظير جميع محاولات التوطين، وإنهاء هويتهم الوطنية، ونتيجة ذلك كله استمر عمل الأونروا طيلة هذه العقود الطويلة، ويجب أن يستمر.

عملياً، يتداخل في مهمات الأونروا، السياسي بالاجتماعي: فسياسياً، تُعتبر قضية اللاجئين الشاهد الملك في قضية فلسطين والدليل العملي على حقهم في العودة، أمّا على مستوى الخدمات، فإنها تساعد اللاجئين الفلسطينيين في الاستمرار بتسيير حياتهم.

تقدم هذه الوكالة الدولية الرعاية الصحية والإغاثة والبنية التحتية وتحسين وضع المخيمات والدعم المجتمعي والقروض الصغيرة والاستجابة الطارئة، بما في ذلك في أوقات النزاع المسلح. ويحتل التعليم 60% من ميزانيتها السنوية، لأنه السبيل الأقوى لاستمرار القضية الفلسطينية ولفاعلية اللاجئين، بعد أن خسر الفلسطيني أرضه، وأصبح النضال هو المسار البديهي لاسترجاع الحقوق والحفاظ على الهوية الوطنية، فتمسّك بخيار التعليم، وتفوّق في مجالاته من مشارق الأرض إلى مغاربها بحثاً عن الحضور الفاعل والكريم.

لا نستطيع موضوعياً إنكار الدور الذي قامت به "الأونروا" على مختلف الصعد، فوجودها أبقى قضية اللاجئين حية، ومساهماتها في التعليم، جعلت الفلسطينيين في مصاف الشعوب الأكثر تعليماً، متخطين كثيراً من الدول العربية. لكن العقود الثلاثة المنصرمة شهدت تراجعاً في دور الوكالة على عدة صعد، وتصاعدت شكوى اللاجئين من التقليصات في الخدمات، في مقابل شكاوى الأونروا من ضعف التمويل، وذلك بالتوازي مع حديث متكرر عن إنهاء وجودها ودورها.

اتفاق أوسلو والمتغيرات

في المرحلة التي تلت توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993، بدأت الوكالة تعطي أولوية لمشاريع تأهيل اللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة على حساب اللاجئين في الدول الأُخرى، وجرى إدراجها في مشروع "تعزيز السلام" الهادف إلى إنجاح اتفاق أوسلو، إلى حد ذهب فيه البعض إلى الحديث عن نية "الأونروا" توفير البنية التحتية في المنطقتين، ليصار في النهاية إلى الاستغناء عن خدماتها والتمهيد للانسحاب بالتدريج من المناطق الفلسطينية. لكن تعثُّر الاتفاق أوقف الكلام المتنامي عن نهاية الدور، وإن لم يكن بشكل قاطع.

فقد جرت محاولات لتسليم خدمات الأونروا إلى الدول المضيفة: لبنان وسوريا والأردن والسلطة الفلسطينية التي جرى اعتبارها مضيفة، وترافق ذلك مع سياسة تقليص الأنشطة والخدمات، وإحياء مشاريع قديمة كالخطة التي اقترحها ثلاثة أكاديميين إسرائيليين في أوائل السبعينيات، والتي ترمي إلى نقل عبء مسؤولية اللاجئين إلى الحكومة الإسرائيلية، بدلاً من الأونروا، على أن يصار إلى دمج المخيمات في المدن.

بعد توقيع الاتفاقات، اتسع طموح إسرائيل إلى تفكيك الوكالة وطمس قضية اللاجئين ومعها حق العودة. ومارست إسرائيل من خلال جماعات الضغط في الولايات المتحدة، ضغوطاً لا تزال مستمرة على الإدارات الأميركية، كي تقوم واشنطن بخفض تقديماتها للوكالة التي تعاني ضائقة شديدة.

ومؤخراً، انضمت أحزاب يمينية أوروبية إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تنادي بحل الأونروا، وإنهاء عملها بشكل كامل، وإلحاق اللاجئين الفلسطينيين بالمفوضية السامية للاجئين في العالم، وهي محاولات وجدت طريقها إلى الفشل، كون أنظمة المفوضية تقضي بإعادة اللاجئين إلى أوطانهم التي هُجروا منها. فإلى أي أرض سيعود الفلسطيني، إذا ما نجحت إسرائيل في ضغطها على الأمم المتحدة لإيقاف عملية "توريث صفة اللاجئ"، وإذا تساوى أطفال اللاجئين الجدد مع غيرهم من الفلسطينيين الذين لا يحملون هذه الصفة مستقبلاً؟! لقد فشلت المحاولات حتى الآن، لكنها لم تتوقف.

ولعل ممّا يزيد في الإحساس بالمخاطر على النحو الذي أشار إليه السيد لومباردو، هو إدخال تمويل الوكالة في التجاذبات السياسية الحادة، وحتى – للأسف- من دول عربية، مثل المملكة العربية السعودية التي تقف على رأس قائمة الدول العربية، والرابعة بعد أميركا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي المانحة لـ "الأونروا"، والتي هددت بوقف معوناتها للأمم المتحدة، على خلفية موقف المنظمة الدولية من الحرب على اليمن.

ضرورة البقاء

بينما يعاني الفلسطينيون أشكال انقسام متعددة، يجتمع الكلّ على أهمية بقاء الأونروا. وعلى الرغم من الاحتجاجات على التقليص والتقصير في هذا الجانب أو ذاك، ومن ذلك تقصير الأونروا تجاه اللاجئين الفلسطينين في سوريا، وتخلّيها عن مخيم اليرموك خلال الأزمة الممتدة من سنة 2011 حتى يومنا هذا، تحت مسمى "مناطق تحت الخطر"، وكذلك تقصيرها في الخدمات المقدمة إلى اللاجئين في لبنان والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة المحاصر، على الرغم من ذلك كله، فإن الفلسطينيين على اختلاف اتجاهاتهم يرون أن بقاء الأونروا ضرورة ليس فقط لما تقدمه من خدمات، لكن أساساً لما يحمله وجودها من دلالات سياسية بالغة الأهمية.

ولعل هذا ما يخشاه الفلسطينيون: وجود مخطط تقوده دول وجهات متنفذة في العالم، تهدف في النهاية إلى تغيير مهمات "الأونروا"، وهو أمر لم تُخفه القيادة الفلسطينية، بل عبّرت عنه خلال الأسابيع الماضية أكثر من مرة، آخرها في خطاب الرئيس عباس في الأمم المتحدة، والذي ناشد فيه المجتمع الدولي مواصلة تقديم الدعم إلى "الأونروا"، كي تتمكن من الاستمرار في تقديم خدماتها الإنسانية، وحذّر من محاولات تغيير مهمات الوكالة وأنظمتها، ومن شطب البند السابع في مجلس حقوق الإنسان المعنيّ بحقوق الإنسان في فلسطين المحتلة وباقي الأراضي العربية المحتلة.

ماذا لو تخلى المجتمع الدولي عن الأونروا وأحالها إلى التفكيك؟ سيقف الفلسطيني أمام واقع محاولة إنهاء القضية الفلسطينية من خلال إنهاء قضية اللاجئين. هذا الافتراض على الرغم من أن تحققه هو أمر نسبي، فإنه يحتّم على الفلسطينيين تضافر جهود الفصائل والمجتمع الأهلي لتغيير السياسات والسلوك، ووضع خطط منهجية يعمل عليها الخبراء لتأمين ميزانية كاملة تدعم برامج العمل الرئيسية والطارئة، وإلا سنعود إلى المخطط الأول: توطين اللاجئين خارج ديارهم، وإتاحة المجال لقيام "إسرائيل" كوطن قومي يهودي غير ملزم بعودة أصحاب الأرض الأصليين.

 

*مدير مؤسسة جفرا للإغاثة والتنمية الشبابية

جريدة النهار

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد