آلاء السهلي – هولندا
 

"هي هجرة أخرى فلا تكتب وصيتك الأخيرة"، قالها الشاعر الراحل، محمود درويش، إبان الاجتياح الاسرائيلي لبيروت سنة 1982، محاولاً من خلالها طمأنة الشعب الفلسطيني بأنها ليست محطته الأخيرة، كما كان يشاع، ولبث روح الأمل وشحذ الهمم من جديد.

الجملة التي علقت في الذاكرة الفلسطينية إلى يومنا هذا، ألهمت آلاف اللاجئين الفلسطينيين بعدم الاستسلام أمام النكبات والخيبات المتتالية، إذ يصرّ اليوم اللاجئون الفلسطينيون، الذين فرّوا من جحيم الحرب في سوريا نحو أوروبا على التمسك بسبل الحياة، حاملين ذكريات مخيماتهم التي دمّرت بفعل الحرب السورية، و حلمٍ بالعودة الى فلسطين.

وبين هذا وتلك يبرز سلوك جمعي لافت يمارسه هؤلاء اللاجئين في مختلف أماكن وجودهم الجديدة في أوروبا ألا وهو الزراعة، مظهرٌ من مظاهر التمسك بالحياة عرفتها الطبيعة البشرية منذ وجودها، يجسدها اللاجئون هنا في زراعة أنواع مختلفة من النباتات في حدائق منازلهم الصغيرة منتظرين مواسم القطاف، ولكن ما العلاقة التي وحدتهم في نهج سلوك كهذا؟!
 

ممارسة الزراعة تحقق جزءاً من الهوية الفلسطينية
 

 

معن جلبوط وهو ابن مخيم اليرموك، لاجئ الى هولندا، يعتني يومياً بحاكورته -قطعة أرض مزروعة- الصغيرة، التي أنشأها في حديقة منزله، ويرى بأن ممارسة الزراعة تشعره بتحقيق جزء من هويته الفلسطينية، ويقول: "عندما كان أهلي في فلسطين كانوا مزارعين يعيشون من خيرات الأرض، فمن الطبيعي أن تكون معظم أحاديثهم عن أيام البلاد تحمل قصص الأشجار والبيارات حتى عشقنا العرق الأخضر من تلك القصص، أمي رحمها الله نقلت شتلات قريتنا الجاعونة كالريحان والحبق والجوري والخبيزة والعطرة والميرمية إلى حاكورة بيتنا في المخيم وأنا أسير اليوم على خطاها هنا في هولندا".
 

والدا اللاجئ الفلسطيني معن جلبوط في حاكوتهم بمخيم اليرموك

 

علاقة قديمة ربطت اللاجئ بأرضه وبفكرة الزراعة، حتى انتقلت معه إلى مختلف مناطق لجوئه عبر الزمن لم تكن عبثية، ذلك أن المجتمع الفلسطيني كان يتسم بكونه مجتمعاً زراعياً فتياً، إذ كان يساهم القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني بالنسبة الكبرى من إجمالي الناتج المحلي الفلسطيني قبيل النكبة، مشابهاً في ذلك كافة المجتمعات في الجوار الجغرافي لفلسطين.

وينتظر اليوم معن جلبوط حصوله على الجنسية الهولندية، لتحقيق حلمه بزيارة قريته المهجرة الجاعونة قضاء صفد، وعن سؤالنا له عن الشتلات التي يرغب بزراعتها هناك أجاب: "أختار الياسمين لأن والديّ عاشا بقية حياتهما في دمشق وعشقاها وعشقوا ياسمينها، وتوليب وفاء لهذا البلد –هولندا- الذي استقبلني وسيمنحني جنسيته قريبًا، لتحقيق حلمي برؤية بلادي".

هولندا ومثلها العديد من الدول الأوروبية سهلت حصول اللاجئين على جنسياتها، فكانت الوجهة  للفلسطينيين الفارين من سوريا خلال رحلة رحيلهم القسرية، بعد أن باتت لعنة وثيقة السفر الفلسطينية مصدراً للإهانة والإذلال في بلاد العرب.

 

تجسيد ذكريات أمهات فلسطين عبر الزراعة
 


الفنان التشكيلي، عماد رشدان، المقيم في السويد، والذي يعد نفسه اليوم متطفلاً على مهنة الزراعة، كما قال لنا كونه من أصول بدوية فلسطينية وليس ريفية يقول: "إن الأرض ومواسم الزراعة و الغلال هو حديث الذكريات اليومي للجيل المنكوب"، مضيفاً، "أن الجهد الذي كانت تبذله الأمهات في رصف أسطح البيوت بالشتلات المتنوعة، كما الحواكير الصغيرة في مخيماتنا الضيقة، كل هذا أتاح لنا نيل خبرة في الزراعة".

ويضيف: "في سبيل مغالبة الوقت، لجأت وفق المتاح  للزراعة، فكانت التجربة الأولى مع الليمون ثم مغامرة استنبات النخيل، وبعدها بدأت تجارب أخرى، وفق المتاح من وقت الفراغ".

هذه الدوافع الإنسانية والإجتماعية نحو الاهتمام بالزراعة عززتها فوائد اقتصادية تعود على اللاجئين، وإن كانت خجولة فهي كافية لإسعادهم، بحسب مايقولون.

 

فوائد اقتصادية وإشباع الحنين في آن معاً
 

 

 ففي فرنسا يؤكد، خليل خليل، وهو أستاذ في اللغة العربية، أن مشروعه الزراعي بدأ كفكرة اقتصادية صرفة يوفر له مؤونة السنة أي مايعادل 150 يورور شهرياً، ويقول: "أنا وزوجتي نسعى الى استجلاب البذور من بلادنا، سوريا ولبنان وفلسطين، وذلك لأن مطبخنا مختلفًا كثيرا عن المطبخ الفرنسي، فمثلاً لا نجد هنا الباذنجان صغير الحجم للمكدوس ولا الكوسا الصغيرة للمحاشي".

خليل الذي عايش فترة حصار مخيم اليرموك وتجويع أهله في دمشق، يؤكد أن الحصار خلَّف آثاراً نفسيةً عميقة رافقها شعور بعدم الأمان وبأن شبح الجوع ما زال مخيماً، مضيفاً: "إن وجود هذه المزروعات في حديقة المنزل يمنحني والعائلة نوعاً من الطمأنينة في حال حدث مكروه، قد يستغرب البعض وهو شعور غير إرادي، ولكنني أراه في هذه الحالة مفيداً جداً، فهو يدفعني إلى المزيد من الاهتمام بالزراعة".

وهو يعمل الآن على البدء بمشروع لزراعة العكوب الفلسطيني، مؤكدًا أن التجربة في حال نجاحها ستكون حدثاً زراعياً في فرنسا، علمًا أن -العكوب نبات جبلي بعلي لا يُزرع، وهو من التراث النباتي الفلسطيني-، إيمانا منه بأهمية مخاطبة المجتمعات الأرووبية والتأثير عليها لصالح القضية الفلسطينية بشتى الطرق.
 

هي محاولات للتشبث بالحياة رغم قسوة المصاب، وأسلوب نفسي ممتع في الحفاظ على الكينونة الفلسطينية عبر استجلاب نباتاتها للأرض الأوروبية، إذ يسعى اللاجئون الفلسطينيون دوماً، نحو استحضار علاقة خاصة تربطهم بالمكان الموجودين فيه، علّ ذلك يحقق لهم نوعاً من التوازن والاستقرار، حتى استرداد حقهم في العودة إلى وطنهم وأراضيهم المسلوبة، التي لطالما اشتهرت بخصوبتها وطبيعتها ووفرة الأزهار البرية فيها كالنرجس والدحنون والسوسن والخرفيش والزعفران والخبيزة والميرمية وغيرها.

خاص

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد