عتاب الدقة 
 

أن يحيي شعبٌ ما ذكرى نكبته بتجرع مرارة مجزرة ترتكب بحق أبنائه، هذا يحدث فقط عند الشعب الفلسطيني وفي قطاع غزة تحديداً الذي ما فتئ يفاجئ الجميع في كل مرة بتفجيره أسلوباً جديداً من المقاومة رغم رزوحه تحت الحصار منذ ما يربو عن أحد عشر عاماً، تعرض خلالها لثلاث حروب تدميرية.

فعلى مدار ثمانية أسابيع متتالية أبدع الغزيون (و70% منهم لاجئون من المخيمات) نموذجاً لن نقول إنه جديد إذا ما استذكرنا مظاهرات سُميَّت أيضاً "مسيرة العودة"  جرت على حدود الجولان السوري المحتل عام 2011 في ذكرى النكبة و النكسة ارتقى خلالها عشرات الشهداء ، وما تزامن معها من مظاهرات جرت على الحدود الفلسطينية اللبنانية، ولكنه نموذج حي للمقاومة البعيدة عن الخطابات و البهلونات الكلامية التي ما زالت الفصائل الفلسطينية ومن لف لفها من مستوى رسمي إقليمي يتبجحون بها في إطار الصراع على الوجود مع الاحتلال الإسرائيلي .

نعم، كان حجم الخسائر كبيراً ومؤلماً، فأن يتصيّد جنود الاحتلال زهرة شباب غزة ليرتقي منهم أكثر من ستين ويصاب المئات في يوم واحد وفي ذكرى الاستيلاء على أرضهم،  فهذا إمعان في الظلم القائم على الشعب الفلسطيني منذ سبعين عاماً، وهو استهداف لمشروع فلسطيني تحرري يشكل هؤلاء الشهداء عموده الفقري، ولكنه في ذات الوقت تعرية للقيادة الرسمية الفلسطينية -التي تلعب دور الشاهد الصامت على كل ممارسات الاحتلال في القدس و الضفة وغزة وحتى على عذابات الشعب الفلسطيني في الشتات -  قبل تعرية الاحتلال الإسرائيلي على جرائمه المعلنة وممارسته جرائم حرب أمام أعين العالم أجمع ، وإحراجه والتأسيس لعزلته دولياً .

إذ إن ما حدث على حدود غزة من جريمة، ما كان ليحصل لو أثبت المستوى الرسمي الفلسطيني نجاعة تذكر في ممارساته السياسية والعملية ضد الاحتلال، ولو لم يستمر في "التنسيق الأمني" وإطفاء جذوة الانتفاضة في الضفة الغربية، ولو لم يصل الشعب الفلسطيني إلى حد الاختناق من ضعف  وهزالة الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية والفصائل الأخرى تجاه الاحتلال المستمر في حصار غزة و تجويعها أولاً، و محاولات معاقبته واستثمار احتياجاته في خلافات سياسية داخلية ثانياً، لذا قرر الشعب الفلسطيني في غزة أن يتحرك بنفسه لينقذ ما يستطيع إنقاذه من حياة تموت تدريجياً داخل القطاع المحاصر، وليكرس حقه الأول في العودة إلى الديار التي هجر منها أجداده عام 1948 ، وحقه في القدس التي كانت تجري مراسم تهويدها بالتزامن مع المقتلة التي كان يتعرض لها ، فكان أن دفع ثمناً باهظاً ما كان ليدفعه لو وجد قيادة سياسية تتبنى مقاومته وتأخذ على عاتقها تحصيل حقوقه عملياً، وتجنبه أن يكون ضحية مجزرة جديدة.

 

إلا أن هذه التجربة، كما غيرها، في ظل أنظمة سياسية فلسطينية وعربية فاسدة وواقع عربي مترد مليء بالصراعات و الانشقاقات،والهرولة للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي،  تثبت نفسها مجدداً، كأسلوب ناجح جداً في الإضاءة على عذابات الشعب الفلسطيني وحقوقه المسلوبة و الجرائم التي ترتكب بحق أبنائه يومياً، وفي التعامل مع احتلال لا يمكن التعاطي معه سوى بأسلوب المواجهة، الذي غيّب لسنين طويلة في خطابات "الممانعة" العربية، وتهديدات النّد الإقليمي، ولم يظهر إلا نادراً لتصفية حسابات إقليمية، وليس كرمى لعيون الشعب الفلسطيني الذي لا يهاب الاحتلالُ حقيقةً إلا هو، و لا يقيم اعتباراً إلا لغضبه وثورته، لذا فعلى هذا الغضب أن يُدرس جيداً، ويبقى في إطاره الشعبي  إلى أن تظهر قيادة حقيقة من بين ثناياه لتتبناه وتتابع رسم خطواته،  بعد أن أثبتت كل التجارب أن هذه المواجهة الحية مع الآلة العسكرية الإسرائيلية، هي وحدها من ترسم أفقاً لتثبيت الحقوق وإبقاء الجريمة الصهيونية وما يزال يتبعها من جرائم بحق الشعب الفلسطيني حاضراً على أجندة الحساب الذي سيأتي يوماً ما.

خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد