الوليد يحيى – بيروت

لم تفكر ربا رحمة مواليد مخيّم اليرموك بدمشق 1987، قبل أن تذهب لتعتصم أمام السفارة الهولندية في بيروت لوحدها، يوم 26 آب/أغسطس الفائت، سوى بأنّها لا تريد أن تزعج أحداً، سواء السلطات اللبنانية أو موظفي سفارة البلد الذي تلتمس منه أن يلم شملها بأهلها.
 


فقررت في سبيل ذلك، أن لا تخبر أحداً بتحركها، وأن تذهب بكلّ خفّة برفقة أفراد أسرتها فقط، وقد جمعتهم برسمة بسيطة على كرتونة زرقاء، دللت فيها على أمكنتهم المتباعدة على امتداد الأرض، وأخبرت فيها أيضاً أن هذا آخر أمل لها بلقائهم وخلاصها، ومازال حبيساً لسنوات بين دفتي ملف لم شمل معنون برقم من 13 خانة، لا يدرك دارسوه أي أبعاد إنسانية لما بين طيّاته سوى ما ينصّه القانون وما يراه في تقييم الحالة.

وقفت ربا أمام كاميرات السفارة، لا شكّ أنّ موظفيها أخذوا بمراقبتها، كما سيارة الشرطة اللبنانية التي حضرت المكان، ترجّل منها أحد العناصر، وراح باتجاهها سائلاً: "ماذا تفعلين، وماذا تحميلن؟"، فأجابته: "أعتصم أمام السفارة لطلب لم الشمل، وأحمل معي عائلتي."، مشيرةً إلى لافتة الورق المقوى التي تحتوي رسومات رمزية لأفراد عائلتها، فما كان له سوى تركها وشأنها، ربّما تعاطفاً أو قلّة حيلة قانونية، لفتاة لا تهدد أمن أحد.

أما لم اختارت ربا هذه الطريقة، فلأنها الوسيلة الأخيرة بعد أن رفضت السلطات الهولندية طلب لم شملها بعائلتها المقدّم من قبل والدتها مرتّين، والحجّة بأنّها فوق السن القانونية للم الشمل، ومستقلّة بذاتها وقادرة على الاعتماد على نفسها، إلّا أنّ ما فعلته ربا محاولة أخيرة، علّها تثمر في لفت أنظار المسؤولين هناك، بأنّ اعتباراتهم القانونية، ليس لها ترجمة في قاموس عيش اللاجئين المهجّرين، في ظل غياب كافة أشكال الأمان الاجتماعي والمعيشي والقانوني للاجئة  فلسطينية بلا وطن ولا أسرة، تعيش في بلد يمنعها من العمل، ولا يوفر لها الأمان القانوني، باتت تواجه لوحدها مصيراً مجهولاً فيه.

"ففي لبنان، انتهت فرص عيشي، واستفقت مؤخرّاً على تساؤلات قاتلة"، تقول ربا لـ بوابة اللاجئين الفلسطينيين، "فأنا هنا وحيدة، لا أستطيع العودة إلى سوريا، بلد لجوئي الأوّل لما يتهددني من مخاطر أمنية، ولا أستطيع البقاء في لبنان، فلا عمل لدي ولا موارد معيشيّة فيه، ووضعي القانوني شديد التعقيد كلاجئة بوثيقة سفر".

وتفكّر ربا، بما سيحل بوضعها بعد خمسة أشهر، حين تنتهي صلاحيّة وثيقة سفرها، والتي يستوجب تجديدها، جلب ورقة من سوريا، وهي التي لم يعد لها أيّ قريب من الدرجة الأولى لتوكله بهذه المهمة، ولا تستطيع الذهاب إلى هناك، ما يعني أنّها ستبقى تعيش خلسة في لبنان، ومهددة بين الحبس والترحيل، ما قد يدفعها ذلك لسلوك طرق هجرة محفوفة بالمخاطر، واحتمال الموت فيها هو الأوّل، كما تقول، مصّرة على خلاصها.

لم تلوّن ربا وجهها بألوان المسكنة والكآبة حين اعتصامها، بل أخفت كعادتها تعبها بضحكة دائمة الارتسام على محيّاها، يحسدها كل من يقابلها على راحة بال وازدهار عيش توحي به تلك الضحكة، والتي تشتعل حتّى أثناء الحديث عن المعاناة واستذكار الأحبّة الغيّاب، ومنهم والدتها التي لم يدرك أحد سواها ما تخفيه، وقالت لها مؤخّراً: "يكفي مكابرة يا ربا، أنت تعبة وانا اكثر منك تعباً".
لربما رحمة، حكاية استثنائيّة للاجئة فلسطينية مهجّرة من سوريا، خطّتها طوال سبعة أعوام، لم يكتب فصلها الأخير بعد، فهي ما تزال تواجه أزماتها الاستثنائيّة، وبالكثير من الاستثنائيّة، وللحكاية فصول:

 

بداية الحكاية .. ألم التهجير وصدمة التحقيق

في كانون الثاني/ يناير 2013، ركبت ربا وعائلتها قوافل المغادرين رغماً عنهم عن مخيّم اليرموك وسوريا، هرباً من جحيم حرب لم تستثن اللاجئين الفلسطينيين، وكانت لبنان هي الوجهة، حيث مكثت العائلة في مخيّم عين الحلوة في صيدا،  لتعاود ربا الذهاب إلى سوريا برفقة شقيقتها بهدف تخليص بعض الأوراق الرسمية الخاصّة بالجامعة، ولدى العودة ثانية إلى لبنان حدث ما لم يكن في الحسبان.

"جرى توقيفي من قبل الأمن السوري في النقطة الحدودية بمنطقة المصنع، ومنعوني من العبور إلى لبنان"، تخبرنا ربا وتصمت قليلاً، فرعب المشهد الأوّل قد استحضرته ذاكرة الخلايا قبل ذاكرتها، وكأنّ المحقق الذي وصفته بـ"الضخم البشع" قد عاد ثانية ليواجها بتهمتها، خالية الأساس، حين قال لها: "أنت ربا!، وأخيراً أمسكنا بك، أنت تعملين مع تنسيقيات المعارضة".

ساعات من الإرهاب النفسي مورست بحقّها خلال فترة التحقيق، شهدت خلالها ضرب شاب وتعذيبه أمام أعينها، فلم تجد ابنة الـ25 عاماً وقتذاك، ما تفعله سوى التجّرؤ والسؤال عن وضعها وتهمتها، ليجيبها المحقق: "أنت تهمتك ستودي بكِ إلى الإعدام".

"أصبت بحالة انهيار وصرت أتخيل أمامي والدتي تبكي، وأهلي في حالة من العويل" تقول ربا، وكان صوت شقيقتها حينها يتسرّب إلى الغرفة وهي تصرخ بعد أن ختموا لها ختم العبور إلى لبنان: "أفرجوا عن أختي، فلن أذهب بدونها".
لتنتهي هذه المحطّة بإعادة ربا إلى سوريا مع ورقة كتبوا عليها، "مراجعة فرع الأمن السياسي بريف دمشق"، مرفق بتاريخ ورقم ملف/ أمّا شقيقتها فعبرت إلى لبنان.

حالة الرعب، لازمت ربا طوال فترة وجودها في سوريا والتي امتدّت لـ3 أشهر، وهي بين حيرة أن تراجع فرع الأمن أو تتهرّب من الأمر الذي يزداد خطورة كلّما تأخّر الوقت، وفي تلك الأثناء، كانت تحاول عبر وسطاء أن تستدرك الأمر لاستخراج ورقة "كفّ بحث" عنها، كلّها بائت بالفشل، وهناك من قال لوالدها بأن لا تذهب إلى الفرع الأمني سيّء الصيت، فمن يدخل هناك وخصوصاً، في تلك المرحلة قد لا يخرج منه حتى وإن لم يكن هو الشخص المطلوب.

لم تجد ربا أمامها بعد كلّ ذلك من سبيل، سوى العبور خلسة إلى لبنان، عبر الطريق الطبيعي الواصل بين البلدين، بكل ما يحتويه من احتمالات أقّلها السجن الأمني غير معلوم المصير، فهي المطلوبة لأحد فروع الأمن، والخارجة هرباً من بلد صارت مخاطر البقاء فيه مركّبة بالنسبة لها بين الأمن والحرب، والعودة إليه مستحيلة.

"كانت رحلة العبور مليئة بالرعب ومحفوفة بالمخاطر، جعلتني بحالة نفسيّة، بدوت فيها شبه فاقدة لإدراكي، وكأنّي موجودة وغائبة بذات الوقت، ولا فأكر سوى بدموع أمّي في حال أمسكوا بي"، تقول ربا التي نجحت بالعبور أخيراً إلى لبنان، ولكنّ أزمة نفسيّة حادة قد عبرت معها ولازمتها لعام كامل.
 

الأزمة والدواء

عام كامل قضته ربا، وهي تعيش تبعات أزمة نفسيّة جرّاء ما حدث معها خلال الأشهر السابقة، أعراضها تعرقل العيش والفاعليّة لأي انسان مهما بلغت قوّته و حدّة مكابرته على أزماته مبلغاً كبيراً، كأن تصاب بانهيار كلّما رأيتَ مظهراً عسكريّاً وتفقد القدرة على الكلام والحركة، فكل ما هو رسمي وعسكري بات يثير الذعر في نفسها، في بلد تعجّ شوارعه بتلك المظاهر، فكيف وهي تعيش في مخيّم عين الحلوة في صيدا، الذي يستقبلك على على كافة مداخله حواجز الجيش؟.

في هكذا مناخ يستثير أعراض الأزمة، ساعدها كثيراً عامل العائلة، فلم تكن حينها لوحدها بل كانت أسرتها المكوّنة من 3 شقيقات وشقيقين إضافة إلى والدها ووالدتها، يحيطون بها في تلك المرحلة قبل أن يُشتتوا في بقاع الأرض، وهو ما ساعدها لتندفع باتجاه دوائها الذي لفت والدها أنظارها إليه، فكان يحضّها في تلك الفترة العصيبة على فعل شيء ما يخرجها من حالتها، وينسيها أزمتها كأن تخرج لتبحث عن أيّ عمل حتّى وإن كان بلا مقابل ماديّ، ومن هنا بدأت ربا تتحسس طريق علاجها الذي تجلّى بالعمل التطوّعي فكان مشوارها الطويل، الذي ساعدها على مواجهة الكثير من الأزمات المتلاحقة.
 

مواجهة الأزمات بالعمل التطوّعي والحقوقي

وبينما كانت مشاكل وقضايا اللاجئين الفلسطينيين المهجّرين من سوريا إلى لبنان، بدأت تضغط حياتهم في تهجيرهم الجديد، كانت ربا تبحث عمّا يمكن فعله حيال مجتمعها الذي تنتمي إليه، لتبرز أمام ناظريها حالة التلاميذ الذين كانوا يتعلّمون في لبنان وفق المنهاج السوري، ويذهبون إلى دمشق في كل موسم امتحاني لتقديم الامتحانات الرسميّة.

بدأت ربا، وهي خريجة كليّة الآداب قسم اللغة العربيّة، بالبحث عن هؤلاء التلاميذ وتعليمهم بشكل تطوّعي، منهاج اللغة العربية المعمول به في سوريا، حتّى أتيحت لها فرصة بأن تعلّم في أحد المعاهد التي أنشئت في مدينة صيدا لهذا الغرض، دون مقابل مادي باستثناء أجرة المواصلات.

"بهذه الأثناء كانت تلفت نظري أي جمعية في صيدا، فكنت أدخل اليهم وأسألهم عن عملهم وأساعدهم وأعمل معهم دون حتّى أن يعرفوني، وذلك لأشغل نفسي وأحاول تطوير أدواتي عبر التعلّم والاندماج في المجتمع اللبناني"، تقول ربا، التي كانت تصطحب تلاميذها معها إلى أيّ ورشة عمل تُتاح لها في جمعية هنا أو هناك، ما ساعدها على نسج شبكة علاقات وتعلّم العديد من المهارات، حتّى تلقفتها جمعيّة لبنانية قدّمت لها بعض ممكنات التعليم.

أسلوبها المؤثّر والخلّاق في التعليم، قرّبها أكثر من التلاميذ، ورفع مستواهم التعليمي إلى حدّ تلاشت فيه نسب الرسوب، "فكنت أجعلهم يغنون القصيدة، وأحدثهم عن قصّتها، حتّى التعاطي داخل الفصل الدراسي لم يكن بذات الرتابة التقليدية، لدرجة كنت أدعهم يتناولون مأكولاتهم داخل الفصل في جو عائلي، كسر صيغة الأستاذ والتلاميذ"، تقول ربا، الأمر الذي أثار حفيظة الإدارة التي لم تتفق ذهنيتها مع ذهنية المدرسّة الشابّة ما خلق حالة من الجدال المستمر بينهم وبينها.

تطوّرت علاقة ربا مع تلاميذها، وأقامت جسوراً صلبة مع أهاليهم الذين باتوا يأتمنون جانبها بكل ما يخصّ أولادهم، وأتاح لها العمل مع هذه الشريحة العمرية ممن هم دون 18 عاماً، ملامسة الإشكاليات القانونية التي كانوا عرضة لها في لبنان، لكونهم تلاميذ من سوريا ومضطّرون للدخول والخروج من وإلى لبنان في كلّ موسم امتحاني.

تقول ربا: "خلال عملي مع التلاميذ، لمست قضايا لفتت انتباهي عن أوضاعهم وكيف يعاملهم القانون اللبناني، حيث كانت توضع أمامهم صعوبات أثناء خروجهم ودخولهم إلى البلاد، وذلك لكونهم دون سنّ 18 والقانون السوري لا يتيح لهذا السنّ امتلاك هويّات، وليس لديهم جوازات سفر، وجميعهم دخلوا إلى لبنان عبر إخراج قيد".

إشكاليات دفعت ربا إلى ميدان النشاط الحقوقي، حين جرى توقيف أحد تلاميذها عند النقطة الحدودية، حتّى فاته موعد الإمتحان، ولم يقبل أي طرف سواء اللبناني أو السوري إدخاله، ولم يجد من يساعده على حلّ مشكلته، هنا لم تجد ربا أمامها سوى التحرّك عبر كتابة قصّة تلميذها عبر صفحتها في "فيسبوك"، ومراسلة الإدارة المسؤولة عن تعليمهم التي أجابت بأنّها لا تعرف شيئاً عن هذه المشكلات.

لم تتوان ربا بعد ذلك، عن خوض الميدان الحقوقي لرصد وتوثيق الإشكالات التي يتعرّض لها اللاجئون الفلسطينيون المهجّرون من سوريا إلى لبنان، وخصوصاً شريحة القصّر وهم كانوا الأكثر عرضة للتوقيف لأسباب تتعلّق بإقاماتهم القانونية في البلاد، حيث كانت إجراءات الحصول على الإقامة لفلسطينيي سوريا تنتظر تعميماً غير معلوم التاريخ من قبل الأمن العام، ما يعني أنّ معظمهم يقضون فترات طويلة بإقامات منتهية إلى حين صدور التعميم.

 فبدأت عملها الجدّي في هذا الميدان بعد أن امتلكت مفاتيحه العلمية، عبر انتسابها الى "المنظمة الفلسطينية لحقوق الانسان"، وبدأت بتلقّي دورات  مكثفة لمدة سنتين، تدرّبت خلالها على كيفيّة الرصد والتوثيق، "فكنا نذهب لمتابعة أي حالة احتجاز التي كانت تكثر عند مداخل مخيّم عين الحلوة، ونتأكد منها، ونسأل عن المحتجزين في المخافر ونوثق الحالة ونقدمها بعد ذلك  للمنظمات الحقوقية" تقول ربا، التي كانت تفعل ذلك بعمل تطوّعي إزاء الأطفال من الشريحة العمرية بين 15 و18 عاماً، التي كانت تنشط من أجلها في ميدان التعليم.
 

فرقة لاجئ والعلاج من الصدمات عن طريق الفنون

ولدت الفكرة عام 2015، من ميل سلام شقيقة ربا التي تصغرها سنّاً، لجمع الأطفال دون سن 18، لتعليمهم فنون الدبكة الفلسطينية في منزل العائلة الكائن في مخيّم عين الحلوة، فكان مقترح سلام لربا أن يجري جمع الأطفال الذين تعلّمهم مع الأطفال الذين تدربهم هي لتكوين فرقة، لتتجاوب ربا مع فكرة سلام من منطلق تشجيعها لشقيقتها وفق ما قالت، وبدؤوا سويّة بتأسيس فرقة أسموها "فرقة لاجئ".
 


بدأت ربا وشقيقتها بالعمل على إطلاق باكورة أنشطة الفرقة، فطلبت من الجمعية التي كانت متطوعة فيها، إعارتهم المكان للقيام بأوّل عرض للدبكة والأناشيد، "وتوقعت بعد هذا النشاط الأول بأن يكون الأخير، فتفاجأنا بأن الفرقة باتت تجذب هذه الشريحة العمرية من اللاجئين، فيأت كثيرون يتصلون بي ويبلغوني باقتراحات كمسرحيات وأنشطة وحبهم المشاركة معنا"، تقول ربا بعد تجربتهم الأولى.

لم تمض أشهر، حتّى قررت سلام الهجرة من لبنان بعد أن سدّت أمامها كافة سبل العيش واتمام الدراسة الجامعيّة فيه بسبب تكاليفها الباهظة، فتوجّهت عبر البحر إلى هولندا، في آب/ أغسطس عام 2015، لتؤول مسؤولية هؤلاء الأطفال كاملة إلى ربا، التي لم تجد سوى الاستمرار معهم، فرحيل سلام فجّر لديهم قلق كبير حول مصير فرقتهم التي باتت تشكّل لهم ملاذاً يبدد عنهم مصاعب لجوئهم ويوفّر لهم مساحة لم يجدوا سواها في تهجيرهم القاسي، حتّى باتوا يتصلون بربا وكأنهم يستنجدون بها لتواصل معهم الطريق.

"في هذه الأثناء، كنت أخوض دورة تدريبيّة بعنوان العلاج من الصدمات عن طريق الفنون، وتخصصت بالرسم كوني أحبّه، وتوجهت إلى المسرح بعد أن لفت انتباهي اهتمام وشغف والصبايا والشباب به"، تقول ربا، التي بدأت بتطبيق ما تعلمته في الدورة على فرقتها وتوضّح: "صرت أحاول استخراج قصص منهم ومن تجاربهم المعيشية، وتحويلها إلى مسرحية، وهذا يعني استخراج أي قصة كانت تشكل لهم صدمة من صدمات الحرب، وتخليصهم منها".
 

بصمة مميزة من الصفر

من اللا شيء، وبجهد ذاتيّ لم تنفك عن اجتراح الحلول وتخطّي المصاعب، عبرت ربا بفريقها الذي بات يكبر أعضاءه في الأعمار والأعداد، لأن يثبت نموذجه الذي صار يُشار إليه بالبنان في صيدا وسواها من المدن التي حلّت فيها الفرقة، على أنّه النموذج الذي ولد من الصفر، ويقدّم مواهب في المسرح الدبكة والراب والشعر وسواها من الفنون.

فمن كورنيش صيدا، الذي حوّلته ميداناً للتدريبات على الدبكة والعروض المسرحيّة، إلى غرفتها في منزلها التي كانت مركزاً متواضعاً وصغيراً للتمارين، إلى تصميم شعار الفرقة وطباعته على قمصان صارت هويّة لأعضاء الفريق، لكل ذلك قصص تُسرد عن جهد واجتهاد لم يقدّم في سبيله ما يعتد به من تمويل أو دعم.

تقول ربا في هذا الشأن، "تقدّمنا لعدّة جهات تدعم المبادرات الصغيرة، ولم نحصل سوى على دعم محدود، استطعنا من خلاله تعزيز فريق الدبكة ببعض المعدات، كالطبل ومكبر الصوت وبعض الملابس، وشراء جهاز لتسجيل أغاني الراب".

أمّا عن التدريب والخبرات، تقول ربا أنّها لا تفقه بكل الفنون التي خاضت فيها الفرقة، لذلك ابتكرنا طريقة يدرّب فيها الفريق نفسه بنفسه، كأن يتولّى شاب موهوب في فنّ الدبكة تدريب مجموعة لديها ذات الهوى، ليقتصر دور ربا على ابداء رأيها ببعض الحركات وتصاميمها وابتكار حركات جديدة، وكذلك مع أغاني الراب حيث تولّى صاحب الموهبة تدريب مجموعته، مع مساعدته في تصحيح بعض الكلمات لتناسب النغم، إضافة إلى تدريبها على فنون الالقاء والوقوف على المسرح لهواة الشعر ومساعدتهم لغويا.

لم تدخر ربا جهداً، ليكون للفرقة حضورها على مستوى الأنشطة الفنيّة في لبنان، فأخذت على عاتقها، فتح علاقات مع مختلف الجهات كبلدية صيدا و الجمعيات المعنية لإبلاغهم عن أنشطة فرقتها، وراحت تتبع الإعلانات عن حفلات للأطفال وسواها، و تتصل بالمنظمين لإبلاغهم: "لدي فرقة وأرغب بالمشاركة بالمجان".

فرقة لاجئ التي بدأت في شباط 2015 بـ 12 عضواً وعضوة صارت اليوم تضم 45 شاباً وشابّة، بعد أن كبرت الأعمار وتوسّعت الدائرة، فمن لا شيء فعلت ربا رحمة الكثير لشبّان انتشلتهم هذا الجهد من مسار ضبابي مجهول، إلى آخر مثمر في بلورة شخصياتهم وسلوكياتهم بمنحى خلّاق.

تقول ربا: "فرقة لاجئ ساعدت هؤلاء الشبّان على إيجاد بديل لحالة اجتماعية كانوا يعيشونها، فبعض الشبّان كانوا يتجهون نحو الشارع وموبقاته من مخدرات ومشاكل تتكاثر في المخيّمات وإلى ما هنالك"، فكان حرصها مضاعفاً منها على استمرار الجهد والعمل، حتّى صارت بالنسبة لهم أمّاً روحيّة وموجهة، عبر بعضهم بفضل هذا الجهد للتفوق الدراسي، وآخرون لأخذ بدايات طرقهم الخلّاقة نحو مستقبلهم.

كما تقول باعتزاز: "فرقة لاجئ أتاحت لشريحة من الشبّان الفلسطينيين المهجّرين من سوريا، إثبات انفسهم وهويتهم، خصوصاً أنّ هناك نزعة في لبنان بين الفلسطينيين في المخيّمات تنظر للاجئ الفلسطيني من سوريا على أنه سوري"، وتضيف أنّ "الإشكال ليس هنا، فنحن نحب سوريا كثيرا، ولكن أيضا نحن لاجئين فلسطينيين، فصرت أرى أنّ الشبّان حين يرتدون -تيشيرت- فرقة لاجئ ويعتزون بالفرقة، كنوع من الاثبات للمحيط بأننا أيضا لاجئين".
 

ربا فصل مفتوح

ابتسمت ربا ولمعت عيناها، حين ختمت حديثها، "اليوم أشعر بأنّي أوصلت الشبّان الذين كانوا سبباً في علاجي ونسياني لواقعي وأزماتي، إلى برّ الأمان، فهم اليوم كبروا وصاروا قادرين على الاستمرار دون ربا".

"كم أشعر بأني تعبت، لكنّي دائما متفائلة، أنا شديدة التفاؤل"، ترتشف قهوتها، وتفكر بما ستخطّه نحو هدفها.

خاص

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد