تقرير: سنى حمود
 

عندما نظر الطبيب الفلسطيني حسين إبراهيم حمود إلى صوره في طفولته، ، تذكر الظروف الأليمة التي عاشها في الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، ولكنه سرعان ما أشار بفخر إلى صوره الحديثة الأخرى حيث تبدل كل شيء.

يقول: إنه ولد من جديد وكبر ونجح رغم المعاناة التي عاشها والإعاقة الجسدية كما يصفها والتي لازمته، وفقدان أحد شقيقاته وإصابة كل أفراد عائلته.
 

طفل خلال الاجتياح

"كان عمري اثني عشر سنة وكنا قد لجأنا من الجنوب اللبناني باتجاه صيدا هرباً من القصف العنيف آنذاك، أتذكر ما حصل كأنه البارحة.. كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، قصفت طائرات الاحتلال المدرسة التي لجأنا إليها، وصرنا نبحث عن الأوكسجين متمسكين بهذه الحياة" بهذه الكلمات بدأ حمود قصته وعيناه امتلأتا بالدموع.

ويتابع: "رأيت الشظايا في قدمي اليمنى، كانت العضلة مفصولة عن العظم والشريان ينزف بشكل خيالي، حاولت الوقوف ولم أستطع، فحملوني إلى سيارة الصليب الأحمر ونقلوني إلى المستشفى الحكومي في المدينة لوحدي من دون عائلتي."

إصابته البالغة بقدمه اليمنى أجبرت الأطباء على بترها، فور وصوله إلى المستشفى، وقبل لم شمله مع أمه التي لحقته للاطمئنان عليه.
 

قصف يطال المشفى

قد يظن البعض أن الأحداث انتهت هنا، لكنّ معاناة أخرى قد بدأت، فبعد اطمئنان أمه عليه، غادرت إلى مستشفى غسان حمود بمدينة صيدا للاطمئنان على ما تبقى من العائلة المنكوبة المصابة، وهنا بدأت الأحداث.

"الاحتلال لم يميز بين مخيم ومستشفى، كالعادة كان يضرب بشكل عشوائي ليبيد أكبر عدد من الناس العزّل.. قصفت طائراته المستشفى الحكومي الذي كنت أتعالج فيه، نجيت بأعجوبة أيضاً هذه المرة، ولكن جسدي لم ينجُ."

أغلق حمود عينيه، وبدأ بحكاية فصة أشبه بما نراه في الأفلام، " أتذكر هذه الليلة ولا يمكنني أن أنساها طوال عمري.. قصف المستشفى، وهرب الأطباء إلى مستشفى غسان حمود تاركين وراءهم المرضى الذين ارتقوا شهداء والمصابين ينزفون.. أمضيت ليلتي تلك في غرفة مليئة بالشهداء، كنت الحي الوحيد بينهم، أصبت مرة أخرى بشظية في قدمي اليسرى وحرق في رقبتي."

ذكريات حرب بدا ثقلها على ملامح حمود خلال حديثه، كيف لطفل بعمره أن يتحمل هذه الآلام!.

"بقيت يومين بين الشهداء، أسمع صراخ وأنين المصابين في أزقة المستشفى، حتى أتى شاب لينقذ ما تبقى من أحياء.. حاول رفعي فبدأت بالصراخ، لم أستطع تحمل كل هذه الآلام ! أجبرني على مساعدته وإلا سيبقيني لأموت من الوجع، وأنا اخترت الموت على التحمل، فتركني، إلى أن أحضر من يساعده في اليوم الثاني ونقلوني بعد معاناة إلى مستشفى راشد الخوري في صيدا.
 

 رحلة البحث عن العائلة

قد يهزم الإنسان، ولكنه لا ينكسر، ربما كان ذلك شعار حمود الذي حمله معه طوال معاناته، حتى أمكنه اليوم من الوقوف على قدميه منتصراً حتى على نفسه بعد كل المرارة التي حملها مذ كان طفلاً وحتى هذه اللحظة.

أهل حسين ظنوا أنه مات جراء القصف الأخير على المستشفى الذي كان يتعالج فيه، ترك وحيداً في الوقت الذي كان يحتاج فيه كتفاً تحمل تعبه، أو لمسة أم وأب يخففان من هول المصيبة التي وقعت عليه.. لكن الواقع المأساوي الذي كان يعيشه فرض عليه عكس رغباته.

بات حمود وحيداً في تلك اللحظات، يتساءل عن مصير عائلته التي حرمه الاحتلال منها، يتجرع آلام تشرده عنها تارةً، وتارةً أخرى ألم إصابته البليغة ومصيره.

لكن القدر بعد أن حمله فوق طاقته، عطف عليه أخيراً ببصيص أمل، هكذا يقول.

"كنت أشعر أن أبواب الدنيا أطبقت علي، حتى رأيت متطوعة في المستشفى أعرفها جيداً اسمها صبحية، لم أكن متأكداً من هويتها لكنني ندهت باسمها فأجابت متفاجئة بأني ما زلت حياً حتى هذه اللحظة، فالجميع اعتقد أنني استشهدت بالقصف الأخير."

وصل الخبر لعائلة حسين، ولكن لم يستطيعوا اللحاق به لأن وضعهم الصحي كان صعباً جراء الإصابات التي تعرضوا لها.

"مر أسبوعان وأنا في المستشفى، كان الوضع مزرياً، لم يتوفر الطعام ولا الشراب حتى أصبحنا نشرب أكياس المصل حتى لا نموت من العطش، ناهيك عن الآلام والإهمال الطبي بسبب الأعداد الهائلة من المصابين، والقصف والحصار الذي كانت تتعرض لهما المدينة"

أسبوعان مرّا كالسنوات على حسين، حتى بدأ الاحتلال يمنح تصاريح لعودة السكان إلى منازلهم، فحضر عمه ونقله إلى مستشفى جبل عامل في الجنوب اللبناني لإتمام علاجه.
 

والد في المعتقل وطفل جريح يواجه حقد الاحتلال

فور وصول حسين إلى المستشفى، اكتشف الأطباء إصابة قدمه اليمنى بالغرغرينا فاضطروا إلى قطعها ما تبقى منها، بالإضافة إلى كسر في قدمه اليسرى. ووسط هذه الأحداث حضر وفد طبي يهودي إلى المستشفى وطلبوا من إدارته أسوأ أربع حالات لنقلهم إلى مستشفى تل هاشومير في الأراضي الفلسطينية المحتلة لمعالجتهم، وكان حسين واحداً منهم.

" رفض أهلي بدايةً ذهابي خوفاً علي، كان القرار صعباً بغياب أبي الذي اعتقله الاحتلال في سجن أنصار، فإما موت هنا، أو فرصة للعيش والنجاة هناك، فذهبت معهم."

يتابع مبتسماً، " وصلنا إلى المستشفى وكان الفلسطينيون بانتظارنا، لم يتركونا للحظة.. وعلى مدة سبعة أشهر تلقيت العلاج لقدمي المبتورة والأخرى المكسورة ورقبتي المحروقة، لقد نجوت بأعجوبة."

لم يسلم حسين من بطش الاحتلال حتى وهو يتلقى العلاج، فكانت ممرضة إسرائيلية تحرض المصابين الآخرين عليه بوصفه بالإرهابي والمخرب، بالإضافة إلى حرمانه من الطعام والشراب أحياناً.

سبعة أشهر من العلاج لم ير حسين فيها الأراضي الفلسطينية، كان يشتم هواءها العليل النقي إلا من وجود الاحتلال.

 فضوله وحبه لبلده دفعه لاقتراح فكرة الهرب من المستشفى بمساعدة المتطوعين الفلسطينيين الذين لم يتركوه للحظة، والتجول في البلاد، فكانت يافا أول محطة له، ومنها إلى باقي المناطق خلسة.

نُقل حسين بعد سنة وشهر إلى مستشفى المقاصد الخيرية الإسلامية في القدس المحتلة لإكمال آخر مراحل علاجه من الإصابة، حظي بنعيم الصلاة في القدس وتقبيل ترابها بحرية.

بعد سنتين، انتهت فترة علاجه ، عولجت قدمه المكسورة، وتم تركيب طرف اصطناعي لقدمه المبتورة، وعولجت حروق رقبته.. انتهى الوقت وحان موعد العودة إلى لبنان.
 

العودة إلى المنفى

بقدر ما تذهلك المآسي التي يرويها حسين عن فظاعة ما عاشه، بقدر ما يأسرك عناده وصموده حين عاد إلى لبنان.

يقول حسين، " لم تكن المشكلة في العودة إلى المدرسة، بل في نظرة المجتمع خاصة أنني كنت الطفل الوحيد الذي يعاني من إعاقة جسدية في المخيم، وهذا كان أكبر تحدي، بالإضافة للطبيعة الجغرافية التي لم تساعدني."

ويتابع قائلاً، "تابعت تعليمي، وعملت في الزراعة بعد مناوشات ومشاكل كبيرة خضتها مع والدي الذي رفض ذلك مراراً، كنت أعمل وأسدد قسط المدرسة التي لم يكن والدي يستطيع دفعه."

أتم حسين دراسته حتى تخرج من المدرسة، كان حلمه أن يصبح طبيباً، تحدى نفسه قبل أن يتحدى المجتمع.. كافح وثابر حتى غادر لبنان إلى موسكو ليتم تعليمه ويحقق حلمه بأن يصبح طبيباُ.

" القدر اختار أن أكون طبيب أسنان، كنت أطمح بأن أصبح جراح عيون لكن الهوية الزرقاء وصفة اللجوء حتمت علي أن أختار تخصصاً آخر".

ما يزال يسكن حسين الطبيب في تجمع القاسمية للاجئين الفلسطينيين بمدينة صور، يعاني ما يعانيه أهله من تهميش وحرمان، ويذهب يومياً إلى عيادته في مخيم البص ليعاين أبناء شعبه المحرومين من حقوقهم الإنسانية.

حسين واحد من مئات الفلسطينيين الذين عانوا خلال الاجتياح الاسرائيلي على لبنان، لكنه نموذج يثبت أنَّ الفلسطيني لديه إرادةٌ قويّة للمضي في الحياة، والسعي من أجل نيل العلم وتحقيق النجاح، بالإضافة إلى الإصرار على العودة إلى فلسطين، أرض الآباء والأجداد.   

 

شاهد الفيديو

 
خاص

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد