هجرها زوجها في زمن الحرب، فأثبتت أنها أقوى من الرجال.. حكاية فلسطينية مهجّرة من سوريا إلى لبنان  

الأحد 08 مارس 2020
صورة تعبيرية – في مخيم شاتيلا – من الانترنت
صورة تعبيرية – في مخيم شاتيلا – من الانترنت

تقرير الوليد يحيى
 

توجّه اللاجئة "أ.ع"  أم محمد، وهي امرأة مهجّرة من مخيّم اليرموك بدمشق، وتقطن في مخيّم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين ببيروت، مع أبنائها الثلاثة، رسالة إلى "النساء المستضعفات" وفق توصيف عادة ما تطلقه ذهنية شائعة على شريحة نساء يعشن بلا رجال وفي ظروف طحن معيشي واجتماعي استثنائيّة، و تدعوهنّ إلى تجاوز فحوى هذه العبارة، فلا وجود لامرأة ضعيفة وفق ما تقول، وفي حالتها نموذج وبرهان.

جسارة في حديثها وتحدّ للحياة ومصاعبها، تبديها ابنة مخيّم اليرموك، وهي التي آنستها ظروفها بعد تهجيرها وأسرتها عن المخيّم، "أنوثتها"، وفق ما قالت لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين"، وأضفت على حياتها وهي ما تزال في متوسط عمرها وتألّق صباها، سمات لا تشبه ما كانت عليه، فبدأت تكتشف مكامن قوّتها كامرأة، في خضم المواجهة التي فرضت عليها، ولم ترضخ لما قابلته من وقائع، فزوجها هجرها وتركها بلا معيل، وبين التهجير والهجر، تفاصيل كفاح غير نادرة ليس أقلّها ذكورية مجتمع، ومحاولات استغلال، فما أكثر القصص التي خطّتها نكبة اللاجئات الفلسطينيات في سوريا، وما أقلّ الالمام بها !.

في السادس عشر من كانون الثاني/ يناير عام 2013، كان يوم نكبة رحيل أمّ محمد وأسرتها عن مخيّم اليرموك، حينها كانت ظروف الحصار قد بدأت تطبق الخناق شيئاً فشيئاً على سكّانه، حتّى صار البقاء فيه مستحيلاً، فحتّى مغامرة الذهاب للحصول على ربطة الخبز تحت نيران القناصين صارت فرص النجاة منها ضئيلة، تقول أمّ محمد، والنجاة من الرصاص كان الخطوة الأولى نحو مجهول، سبقها زوجها إليه في لبنان، على أن تلتحق به بعد شهرين.

في ذلك التاريخ، خرجت أم محمد مع أطفالها إلى مخيّم شاتيلا في لبنان، على عكس ما كانت قد رسمته هي وزوجها، ومفاده أن تبقى في سوريا ويرسل لها مصروف المعيشة، إلّا أنّ عيش المهجّرين في المدارس والجوامع وهو مآل معظم أبناء اليرموك في تلك الفترة، لم يكن خياراً  تستسلم له، بعد أن هاجر أهلها وبقيت وحيدة "فقلت لزوجي أريد أن أذهب عندك الى لبنان لنكون سويّة".

ستّة أشهر قضتها أم محمد في لبنان، ضمن حياة أسريّة، لها فيها موقع الأمّ بطبيعته الوظيفيّة، قبل أن يقرر زوجها السفر إلى البرازيل، على أمل أن تتحسّن ظروف معيشتهم جرّاء عمله هناك، ويرسل لها مصروف عيشها وأطفالها، وفي الأفق خطط مستقبليّة عن لم الشمل والبداية الجديدة، إلا أن ما كان من جديد بعد ذلك، هو ما شهدته حياتها من انقلابات في تصنيفها لذاتها، إذ صارت بعد ذلك الأمّ والأب والمعيل، فغياب الزوج تحوّل إلى هجران ونكران وطلاق وتنصّل من أسرته وأولاده، ومنذ ذلك الحين و حتّى اليوم، وهي عماد بيتٍ قائم بها وعليها دون سواها، وفي ذلك مأثرة تعتد بها، ولا تولّد لها شوى مشاعر الاعتزاز بنفسها وبقوّتها.
 

فترة أولى مكللة بالبكاء

"حين صرت وحيدة، سكنت في بناء بمخيّم شاتيلا، لا أعرف أحداً من سكانه، وأوّل ما واجهني كان سرقة مقتنياتنا وكل ما نمتلك" تقول أمّ محمد، خروجها من منزلها المستأجر ذلك اليوم لشراء خطّ هاتف، كان أوّل مطبّ تعرّضت له، حيث عادت إلى البيت لتجد كل ما تملكه قد سُرق، لصّ تسلل إلى الدار وأخد حتّى مؤونة الطعام، ومعونة "أونروا" الماليّة التي بالكاد تكفي لتسديد أجرة المنزل، وما كان أمامها سوى اللجوء لأحد المطاعم الخيريّة الذي يقدّم طعاماً مجانيّاً للمهجّرين من سوريا والفقراء من أبناء شاتيلا، للحصول على وجبات طعام لأبنائها.

"كانت فترة كلّها بكاء، فنحن غير معتادين على العيش بهذه الطريقة" تقول أم محمد، فوقعُ رعبِ أن يمتد هذا  الواقع إلى المستقبل، كان أكبر من أن يوصف، ليضحى البكاء رد الفعل الإنساني الطبيعي لها، قبل أن تقرر أن تبحث عن عمل يحفظ كرامتها وكرامة أطفالها من حياة العطف والشفقة والاستجداء.

وفي رحلة بحثها عن عمل في مخيّم شاتيلا، وهو المكان الذي تشحّ فيه الفرص إلى حد تكاد أن تكون معدومة، عرض عليها صاحب المطعم الذي يقدّم وجبات الطعام للمهجّرين، العمل في إحدى الجمعيّات الخيريّة، "وسألني إن كنت أجيد القراءة والكتابة وأجبته بأنّي حاصلة على الشهادة الإعدادية" تقول أم محمد، وبدأت العمل بمبلغ مئة دولار شهريّاً، تدبرّت فيها معيشتها إلى جانب معونة " اونروا" الشهريّة.

لم يطبع الموقف الأوّل الذي تعرّضت له في مخيّم شاتيلا، حين سرق منزلها، وما عانته قبل أن تجد فرصة عمل، كلّ عيشها في هذا المخيّم البائس في بيروت، حيث إن المسيرة لم تخل من المواقف الإيجابيّة، فصاحب المنزل الذي تسكنه قد أعفاها من دفع الأجرة حين علم بهجران زوجها لها، في موقف تكاتفي لم يكن الوحيد، لأن أم محمد وجدت في جيرانها من أهل المخيّم عائلة لها، وهو ما خفف عنها وقع الغربة ومعاناتها.

 أمّا معيشتها اليوميّة فاستقرّت على حال عيش معظم اللاجئين المهجّرين من سوريا في هذا المخّيّم وسواه، تنتظر معونة وكالة "أونروا" الشهرية في منتصف كلّ شهر إضافة إلى مرتبها من عملها، لتسدد ديون شرائها لحاجياتها من صاحب الدكان وبائع الخضار، حيث ستعاود الاستدانة من جديد، وتقضي أيّامها في رعاية أطفالها الذين يكمل اثنان منهما تعليمهما في المدارس، بينما اضطرّت ابنتها الكبرى لترك مقاعد الدراسة لتعمل في عيادة طبيب أسنان، كي تساعد والدتها في تدبّر عيشهم وسد احتياجاتهم.
 

أعيش كرجل في مجتمع ذئاب

"سنوات منذ أن هُجّرنا من سوريا، وأنا فعليّاً الأب والأم والمُعيل، نسيت فيها أنني أنثى وصرت أتعامل مع المجتمع كرجل لمواجهة ذئابه" تقول أم محمد، التي اضطرّت أن تنسى أنوثتها، فكل شيء يحسبه المجتمع على امرأة تعيش لوحدها، سواء وضعت قليلاً من الزينة، أو تعاطت مع الآخرين بطريعة طبيعية كأيّ امرأة تضحك وتتأثر، "فإن ضحكت أمام أي شخص يبدأ التهامس بين الناس، ويقولون أنني اضحك للرجال، وأنا مضطّرة أن أكون شرسة لأنتبه إلى بيتي وأولادي وأتجنّب كلام الناس" حسبما سردت.

ذكوريّة اجتماعيّة، لا ترى في المرأة الوحيدة سوى فريسة، تتفجّر عندها كلّ النوايا الاستغلاليّة، رتبّت على أم محمد صعوبات حياتيّة إضافيّة، كأنّ تحل محلّ الرجل في كافة جوانب الحياة.

 تقول ام محمد: "صعب على المرأة في البداية أن تكون رجلاً في المنزل، فهناك الكثير من الأمور التي تحتاج إلى رجل ليقوم بها، ولكني حتى الآن ما زلت قادرة على القيام بكل المهمات"  وتوضح، أنّ التصليحات المنزليّة سواء المتعلقة بالكهرباء أو بالتمديدات الصحيّة، والتي تحتاج إلى جهد لا يقوى عليه سوى رجل مختص، قد اضطرّت لتعلمها، كي لا يدخل رجل غريب إلى منزلها.

"نحنا بمنطقة كل ما يشاهدون رجل غريب دخل إلى الزاروب، تبدأ العيون تتجه نحوي لكوني امرأة أعيش بمفردي بلا رجل" تقول أم محمد، ولم يكن هذا الأمر الوحيد الذي واجهها، وكانت فيه رجلاً، وهي التي تستخدم توصيف "رجل" كتعبير مجازي، فالمرأة بالنسبة لها قادرة على فعل كلّ شيء، إلّا أنّ هذه الطبيعة المجتمعيّة في مراقبتها للمرأة الوحيدة، وضعت أمام أمّ محمد صعوبات لا تواجهها سوى أمّ صلبة، وقد يخرّ أمامها معانتها الرجال.
 

في هذا الموقف لم أجرؤ على الخروج للتحدث بالهاتف

أن تخرج امرأة تعيش بمفردها، في الساعة الثالثة فجراً للتحدث بالهاتف، تحت ضغط الذهنيّة الاجتماعيّة والهمز واللمز، والأعين الذكورية التي تحاصرها، فهذا أمر شديد التكاليف، وان كان في موقف كالذي تعرّضت له أم محمّد ذات ليلة شديدة الصعوبة يتعلّق بصحّة أحد أبنائها.

في هذا اليوم، تكاثفت عوامل بؤس عيش اللاجئين في مخيّم شاتيلا مع بعضها، وأضيف لها ما تمّ ذكره لتحاصر أمّ محمد التي سردت: " كانت الساعة الثالثة فجراً حين تعرّضت ابنتي لنوبة ألم في الكلى بسبب مرضها المزمن وصارت تغيب عن الوعي، ولم أستطع التحدّث بالهاتف لاستنجد بأيّ أحد لغياب الشبكة".

فمخيّم شاتيلا، تفتقد منازله المتلاصقة لتغطية الهاتف الخلوي، ولا يحتوي المخيّم مراكز للإسعاف الليلي، ولا تدخل إلى أزقّته الضيّقة سيارات الإسعاف، فوضعها ذلك في أصعب موقف مرّ على حياتها خلال سنوات تهجيرها، كما تقول، حيث أن الضغط الكبير للمجتمع وخوفها على سمعتها وسمعة أطفالها، أقعدها عن الخروج إلى الشارع لاستعمال الهاتف، "كنت أفتح الباب وأعود، أخشى الخروج لاتصل عبر الهاتف بمكان فيه شبكة، خفت من حكي الناس، و أن يقولوا، ماذا تفعل في هذا الوقت خارج منزلها، فصرت اعتمد على ما وجد في المنزل، أغلي لها زهورات وأعشاب، و أعطيها أدوية مسكنة من الموجودة في منزلي".

قد تكون أمّ محمّد، قد بالغت في تضخيمها لهذا الاعتبار،  فالناس حتماً سيقدّرون الموقف حين يعلمون ما يحدث مع ابنتها، "فلهذه الدرجة يشكّل لديك هذا الأمر موضع رعب وهاجس مخيف" سألناها وأجابت:" نظرة المجتمع خانقة، هذه النظرة الذكورية تشكل ضغطاً على أي امرأة ولا تدرك قساوتها سوى النساء المُكافحات بشرف وصدق".
 

ذكوريّة قررت تَجنّبها في مكاتب الفصائل !

معاناة أمّ محمّد مع الذكوريّة الاجتماعيّة، حاصرتها وأقعدتها عن الدخول إلى مكاتب الفصائل والمؤسسات الفلسطينية، لطلب المُساعدة، وأجابت أمّ محمد حين سؤالها عمّا إذا كانت قد طلبت المساعدة من الفصائل أو المؤسسات التابعة لمنظمة التحرير، نظراً لوضعها الخاص الذي يستوجب رعاية من الشؤون الاجتماعيّة وسواها من المؤسسات: "التعاطي الذكوري من قبل المسؤولين، كان أكبر ضغط ألجمني عن طلب المساعدة منهم" وتضيف " حين تدخل امرأة إلى مكتب أي منظمة، يبدأ التودد والخدمة والنوايا العاطلة بائنة في أعينهم".

وروت، كيف يتصرّف بعض المسؤولين، ولم تعمم قولها على الجميع، مع أيّة امرأة وحيدة، تدخل عندهم، فيبدأ التودد لها، والتقرّب منها لدرجّة التحرّش، واصفة الأمر بـ"القاتل" لأيّة امرأة بوضعها، يتعاملون معها كإنسان سهل المنال، لتلبية ما يجول بنواياهم العاطلة وفق تعبيرها.

وتقول في هذا الإطار، "حين سافر زوجي، وعلم الناس أنني وحدانيّة،  بدأت العروض تنهال علي، سواء لغرض الزواج، أو لطلب أمور بنوايا عاطلة، وكان ذلك عامل ضغط كبير، فأنا يستحيل أن افكر حتّى بالزواج، فكيف بعلاقات غير نظيفة لغرض كسب عمل من هنا وميزة من هناك".
 

رسالتها الأخيرة للنساء

"انا أرى أنّ المرأة في الظروف الصعبة، قادرة على أن تستمر بدون رجل وتتحمل المسؤوليّة، فالتي تمتلك قوّة إرادة يمكنها الاستغناء عن الرجل، وأنا زوجي هجرني وهو استغنى وانا استغني عنه، وأكمل حياتي وأربي أولادي دونه".

وتضيف للنساء اللاجئات المهجّرات ممن هم بظروف مشابهة لظروفها، "أقول لكل النساء المستضعفات، وخصوصاً اللواتي لديهنّ بنت وأولاد، لا تفكروا بالزواج و إدخال رجل غريب إلى منازلكنّ، فهذا له انعكاسات كبيرة على الأولاد".

 وتختم " إلى كل امرأة هجرها زوجها أو ترملت، أن تكون قوية وقد الحمل وهي قادرة على ان تعتمد على نفسها، فلا وجود لامرأة ضعيفة".

خاص

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد