الحمار، الذي صعدنا عليه ثلاثتنا وأصعدناه التلة، خرّ منهكاً. أنا النحيل ابن الريح، وأنتِ الريشة أخت الطيور، وأحلامنا الثقيلة.
حدث ذلك في صبيحة أيام صيفية كهذه، حيث لا تعوز الشمس تلك القدرة الكافية من أجل شوي الرؤوس والأجساد. كنا نضرب الحمار الذي عثرنا عليه في السهول بأعواد القصب. وهناك، بعد أن توقف عن المشي، بدأ يبكي. لأول مرة، أرى حماراً يبكي!. وبعد بكائه، انهال الفتية عليه ضرباً، ثم قرَّروا شنقه.. الحمار العجوز مات حزيناً؛ لأننا قرَّرنا أن نختبر إن كان لهذا الكائن، الذي اعتقدناه وضيعاً، تلك القدرة على الإحساس. وهكذا مات الحمار، فكنّاه إلى أبد الآبدين..
على جدران مزارع الأغنياء، التي تحدّد معالم الطريق الترابية الموصلة إلى التلة إياها، كتب، وبالعربية والإنكليزية، أسماء الجناة، الخارجين من ملعب كرة القدم إلى قمة التلة التي تطلّ على المكان. أمرّ من هناك، وأشاهد اسمي، ثم أبدأ بعدّ السنين. وفي مثل هذه الأيام، يكون عمر الكتابة سبعة عشر عاماً. والحمار، الذي كان ذاهباً إلى حتفه، قرأ الأسماء كلها. بصمته الأسود، وخطاه المرسومة بالمنقلة والفرجار، كان يمضي إلى لحظة يجهلها. حمار ويفكر بالمراعي، والأسماء الحقيقية والشخصية للحصى، بينما كنا -نحن القساة- مشغولين بالتشفي، والقسوة على كائن يمشي على أربعة مقطوع الأنفاس من أوزاننا الثقيلة. أنا النحيل، وأنت الريشة، وأحلامنا الصقيلة، وكتيبة المشاة.
الهجوم على عشّ الدبابير بسعف النخل متعةٌ لا تضاهى.. وطعم أجسادنا، الذي أدخل تعديلاً وراثياً على جينات كائنات الأزيز تلك. الدبابير، التي استطونت في أعشاش بين الصخور، لم تهاجم حمارنا قبل قتله. تلك الشيفرا بين الكائنات، القادرة على معرفة من يسبّب الأذى في منظومة العدوان هذه. كنا نهاجم مملكة تحترق ونضرب بسعف النخل، وكلّ ما كنا نفعله أننا نتلقّى ردات أفعال تلك الكائنات الضعيفة. تركتنا الدبابير نعود سالمين، مع قليل من اللسعات. وسأخال، بعد سنوات، وجه أحد أحفاد الدبابير مشابهاً وجهَ الفتى الذي غامر بالاقتراب إلى العشّ وأضرم النار فيه.
هناك بعيداً، أوقف شاب درّاجته النارية، ونزلت من خلفه فتاة وغابا معاً خلف الساتر الترابي. ومن البديهي أن نتحوَّل، بغمضة عين، إلى جنود يتقنون التسلّل. اقتربنا من الساتر، لنجد رجلاً وامرأة ذابا في التراب الأحمر. ثوان قليلة من المراقبة، ثم صرخ أكثرنا جرأة، محاولاً قطع المشهد، كما يفعل المخرج السينمائي عادة. الذاكرة تقول إنَّ الشاب أخفى وجه الفتاة، وصرخ بأشدّ أنواع الصراخ إثارة للرعب، وذهبنا نجري، هناك حيث ينبغي أن نعيد الاعتبار لرغباتنا، التي لم تكن لتتضح بعد. بعد سنوات، سأجدني تواقاً لإعادة المشهد كما جرى خلف الساتر الترابي. ذلك التوق ليس أكثر من مركّب نقص، كان عليّ أن أعالج أسبابه...
حمار في الذاكرة. يا لسخافة الفكرةّّ!!.. أحياناً أسأل نفسي عن سبب هذا التعاطف الشديد مع حمار قُتل قبل سبعة عشر عاماً.. أقول: إنّ ذاكرتي ضحاياي، وأحزن عندما أسأل نفسي ذاك السؤال المؤلم: ضحيّة من أنا؟!..
ليس الحديث عن الحمار اقترافاً لطرافة لا تحتملها اللحظة الراهنة، ولا الدبابير كناية عن شقاوة الماضي.. إنه المواجهة الأولى مع العنف، الذي لا بدَّ له من كفارة في أيام كهذه، خصوصاً بعدما سئمت رومانسية الرومانسيين، وكلمات الحبّ الكاذب التي تجود بها نساءٌ أقسى من الصخور لرجال غلاظ القلوب. تلك المواجهة تجعلني أمدّ يدي إلى رأسي، لأبحث فيه عن البشر. أين هم أولئك الذين أحببتهم.. مات من مات، وعاش من عاش، وحتى حبّهم لم يبقَ.. كلُّ شيء يجري في مجراه إلى العدم، ووحده الحقيقيّ الذي لا أتلمّسه الآن، يبقى..
هل أنا ذئب حقاً!!.. لماذا، ليس لي ذاكرة مع البشر على الإطلاق؟!.. وهل أجد إجابة في سيرة الشعراء الصعاليك (عروة بن الورد مثلاً)؟.. اليوم قرأت معلقته الشهيرة «ألا أيهذا اللائمي..»، وخطر ببالي لامية الشنفرى «أقيموا بني أمي صدور مطيكم.. فإني إلى قوم سواكم لأميل».. أيضاً استحضرت الأحيمر السعدي «عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى...»، أنظر إلى يديّ فلا أرى مخالب أبداً. أهرع إلى المرآة فلا أجد أنياباً. ومع ذلك، لا أنفكّ استرجع تلك الصورة الوحشية للإنسان.. ذلك الشغف الذي يبلغ حدَّ الخطر، بالشعر، والجنس والأصدقاء، والهواء..إلخ.
أعبر في لوحات بول غوغان.. حسناً أنا الصورة.. تلك الوحشية الضاربة في الأعماق.. النسب المختلة لكينونة الموجودات.. تلك الحسيّة المتدرنة.
أعبر في قصائد ياروسلاف سايفرت، شاعر براغ العظيم.. لماذا لا يغادرني اسم هذا الرجل، الذي قرأت قصائده مترجمة قبل سنين طويلة. لماذا يغادرني كل شيء، ويبقى، فيما يبقى، هذا الاسم وتلك اللوحة وهاتيك القصيدة؟!..
تشي غيفارا، مقتل لوركا، انتحار ميشيما بالسيف.. نعم شقّ الروائي الساموراي بطنه بالسيف. كلُّ شيء في ذاكرتي قادم من الثقافة. أما أنت الحياتي، فتعالَ إليّ كي أنساك.