كان "عبد الجبّار" وهو لاجئ فلسطيني من أبناء مخيّم العائدين في مدينة حمص السوريّة، يعلم جيداً بمخاطر الهجرة عبر الشمال السوري باتجاه تركيا في فترة أواخر صيف عام 2022، لكنه يقول لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ البقاء في حمص كان بالنسبة له أسوأ من قرار اختبار احتمالات الموت على طريق الهجرة أو الاصطدام بإجراءات المنع أو التعرض للاحتيال.
ويشير في حديثه إلى العديد من الحالات التي يعرفها من أبناء مخيّم العائدين الذي قضوا وفقدوا حيواتهم في السنوات السابقة خلال محاولاتهم البحث عن حياة أفضل، وآخرون خسروا كل ما لديهم وعادوا أدراجهم دون الوصول إلى بلدان اللجوء الأوروبي، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه والكثير من الشبّان بالتفكير بالهرب، رغم المستجدات التي صعّبت الوصول.
إغلاق منافذ العبور لطالبي اللجوء باتجاه تركيا لم يوقف المحاولات
ليست معلومةً بالتحديد أعداد اللاجئين الفلسطينيين الذين يخوضون "مقامرة ومغامرة " خوض طرق التهريب من مخيماتهم وأماكن سكنهم في سوريا، للظفر بفرصة الوصول إلى دول اللجوء الأوروبيّة عبر تركيا، من خلال نقاط معروفة للمهربين في مناطق الشمال السوري، أو أيّ مخرج آخر مُتاح.
الّا أنّ المعطيات تشير إلى ارتفاع الطلب على الهجرة من سوريا بين اللاجئين الفلسطينيين كما السوريين، في بلد بات يولّد بين مرحلة وأخرى أسباباً جديدة و متجددة للبحث عن مخرج منه، ويفكّر 71% من سكانه بالهجرة، حسبما أورد بحث نشره "مركز حرمون للدراسات المعاصرة" مؤخراً.
مصدر في "الحكومة السوريّة المؤقتة" التابعة للمعارضة في الشمال السوري، أشار لـبوابة اللاجئين الفلسطينيين إلى صعوبة إحصاء أعداد الوافدين الفلسطينيين من مناطق سيطرة النظام السوري، إلا أنّ موجات الهجرة المتواصلة تتضمّن فلسطينيين بين مجموعات من السوريين التي تنزح من دمشق وحمص وحلب وسواها من المدن السوريّة.
المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه، تحدث عن مجموعات تتوافد بشكل يومي، بعضها عن طريق محافظة إدلب، وأخرى عن طريق مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" شرقي الفرات.
ولفت إلى "تواطؤ" يجري بين جهات متعددة لتسهيل عمليات النقل مقابل أجور مادية باهظة تصل إلى 4500 دولار أمريكي، ومعظم الحالات إمّا تعود أدراجها بعد فشلها دخول تركيا، أو تستقر في مناطق الشمال بانتظار حلّ ما.
وأشار المصدر، إلى صعوبة الوصول إلى تركيا عبر الشمال صارت تصل إلى حدّ الاستحالة، خصوصاً خلال العامين الأخيرين، نظراً لتشديد السلطات التركية إجراءاتها، واغلاقها للعديد من المنافذ التي كان يستفيد منها طالبو اللجوء سابقاً.
ودلل إلى أحد الطرق الشهيرة التي عرفت بـ "طريق التكميش." حيث كان يعمد طالب اللجوء الفلسطيني إلى تسليم نفسه للشرطة التركية بعد عبور الحدود، ليجري إطلاق سراحه ومنحه تصريح إقامة بموجب بطاقة التسجيل بوكالة "أونروا" التي يحملها.
وأكّد المصدر، أنّ تركيا ألغت التعامل الاستثنائي النسبي مع الفلسطينيين، وألغت اعتبارية بطاقة "أونروا" منذ أواخر 2019، نظراً لعمليات تزوير بدأت على نطاق واسع لهذا النوع من البطاقات للاستفادة منها من قبل سوريين وغير سوريين.
كما شددت السلطات إجراءاتها على الحدود، إلى درجة إعطاء أوامر بإطلاق النار على المهاجرين، واتباع سياسات قاسية لمنع عبورهم. حسبما أضاف.
عوامل اقتصادية مزرية تدفع للهجرة
عوامل اقتصادية مزرية تحيط بالمقيمين في سوريا، وتقابلهم حيثما استداروا، يصفها اللاجئ "عبد الجبار" بالأسباب المزمنة التي تدفع إلى الهرب، أكثر من أي وقت سبق وفق قوله، ويرجعها إلى الفقر وما يخلّفه من تأثيرات اجتماعية وتعليمية، وفقرٌ في مساحات الطموح، وحتّى الجرأة على التفكير بالزواج وإنجاب طفل وتأسيس أسرة.
"المسألة ليست في عمليات عسكريّة وانحلال أمني أصاب البلد لفترة معينة، يتوقّف حين يحسم لمصلحة أحد الأطراف." يقول اللاجئ الفلسطيني الذي يحمل شهادة بكالوريوس في الفلسفة من جامعة "البعث" في حمص، "بل هي حياة أشبه بالموت، فصرنا نفكّر في تقنين شربنا للقهوة والشاي، لغلاء السكّر والمواد الغذائيّة، فكيف نفكّر في مستقبلنا ونحن في مقتبل العمر؟" حسبما أضاف.
وتفاقمت الأوضاع الاقتصادية في سوريا، حتّى صارت ممكنات الحياة اليومية تشحّ على معظم العائلات القاطنة هناك، ولا سيما الفلسطينيين الذين بلغت نسبة الفقر في صفوفهم عتبة 90% بحسب وكالة "أونروا" التي قلّصت من تقديماتها الإغاثية عي الأخرى للحد الأدنى.
وعلى عكس السنوات الفائتة، حيث تمكّن أكثر من 100 ألف لاجئ من الوصول إلى دول اللجوء الأوربيّة، والآلاف إلى دول الجوار، بحسب توثيقات رقميّة صادرة عن جهات متعددة حتّى العام 2018، - حين كان الوصول إلى أوروبا عبر الممرات المتعددة أكثر يسراً من ناحية استقبال اللاجئين والإجراءات القانونية ازاءهم- فإنّ الأوضاع في العامين الأخيرين، تحقق نسب وصول إلى تركيا لا تتعدّى 1% من جموع المتدفقين إلى الشمال بحسب تقديرات المصدر في "الحكومة المؤقتة."
ويؤكّد اللاجئ "عبد الجبّار" أنّ ما خسره من مبالغ ماليّة تعدّى 5 الاف دولار خلال رحلته، بين تأمين أجرة المهرّب من حمص إلى إدلب، ومنها إلى الحدود التركيّة، حيث تعرّض هو ومجموعة من طالبي اللجوء إلى الضرب من قبل "الجندرما" التركية، وأعيد إلى إدلب حيث يعيش منذ أكثر من 9 أشهر بانتظار فرج ما. حسب تعبيره.
رحلة تفضي إلى "لا شيء"
أمّا " إبراهيم" اسم مستعار بناء على طلبه، لاجئ فلسطيني سوري من مخيم النيرب للاجئين الفلسطينيين بحلب، عاد إلى مخيّمه بعد أن أمضى قرابة 4 أشهر في جرابلس شمالي سوريا، إثر فشل محاولته للوصول الى تركيا، ووصف خلال حديثه لموقعنا رحلته بأنها " بدأت ميّسرة وانتهت إلى الصفر".
يقول "إبراهيم": إنّه خرج من مخيّم النيرب في مدينة حلب شمالي سوريا في شهر شباط/ فبراير العام الجاري، عن طريق مهرّب مسنود من أحد النافذين في جهاز الأمن العسكري التابع للنظام السوري، موضحاً أنّ أحد عوامل الثقة الأساسية بالمهرّب، بأنّ يثبت صلته بأحد النافذين لدى جهاز أمني، ما يعني أنّ الطريق ستكون سالكة دون مشاكل على الحواجز الأمنية والعسكرية حتّى الوصول إلى إدلب، بحسب قوله.
ويؤكّد " إبراهيم" أنّ تأمين الخروج من مدينة حلب إلى جرابلس حيث تسيطر المعارضة، عادةً ما يكون مضموناً، ولا يثير الخشية بالنسبة للشخص الذي يريد الخروج، ولا يحتاج سوى لدفع المال، "وأن تكون من طرف شخص مأمون بالنسبة للمهرّب وعلى علم مسبق بقدومك إليه".
ووصف اللاجئ الفلسطيني طريقة الوصول للمهربين في حلب والمخيّم، بالسهلة جداً، "فمجرد ما تحتاج إلى مهرّب في ألف مين بدلّك" حسب تعبيره، وأن الموضوع مثل الشبكة بين فلان وفلان، والطلب على المهرّبين وسَّع الشبكات وزاد عددها، وأذاع صيتها بين الناس.
وعن تفاصيل الرحلة، قال "إبراهيم": إنّها لم تشهد تعقيدات منذ أن التقى بالمهرّب يوم 5 شباط/ فبراير 2022، واتفّق معه على الموعد والسعر، ودفع له مبلغ 1200 دولار أمريكي لقاء ربطه بمهرّب في جرابلس، مضيفاً: "كانت السيارة التي أقلتني بعد 12 يوماً، تمر بيسر عبر الحواجز الأمنية والعسكرية التابعة للنظام السوري على امتداد الطريق" حتى استلمه سائق آخر ليكمل به الطريق إلى جرابلس عند نقطة عسكرية قريبة من الحدود مع مناطق سيطرة المعارضة السورية.
إلّا أنّ مصاعب إكمال الرحلة واستحالتها بدأت تتكشّف له في جرابلس الواقعة على الحدود، وبدا ذلك منذ لحظة توقيفه على يد ما تسمى "الشرطة الوطنية" في الشمال، وإحالته إلى التحقيق واحتجازه لمدّة أسبوع، وتمحور التحقيق معه حول ما إذا كان له علاقة بجيش النظام أو الميليشيات المدعومة من قبله.
ويشير "إبراهيم": إلى أن كونه من مخيّم النيرب حيث تسيطر ميليشيا "لواء القدس"، تسبب هذا بشبهة تجاه أبقته أسبوعاً في الحجز، ويضيف: "وبعد ما خرجت من الاحتجاز جاءتني إشارة سوداء ثانية، وهي اكتشافي رقم المهرّب الذي من المفترض أنه سيستقبلني هنا، كان رقماً وهمياً"
وقع "إبراهيم" ضحيّة شبكات التهريب داخل مناطق النظام، الذين رموه إلى مصير مجهول في جرابلس، وقال: "تركوني في مدينة لا أعرف نظامها ولا كيف تمشي الأمور داخلها بما يخص البحث عن المهرّبين" واضطر إلى النوم لمدّة يومين بالشوارع قبل استئجاره مسكناً مع مجموعة من عمال البناء، توطدت علاقته معهم وانخرط معهم في العمل ريثما يجد طريقة لعبور الحدود التركية.
يقول "إبراهيم": إنّ أحداً لم ينصحه في الاعتماد على مهرّب للوصول إلى تركيّا، من الشبّان الذين سألهم، فسمعة المهربين في المدينة صارت سيئة، نظراً لفشل معظم عمليات التهريب بسبب التشديدات التركية، واستمرار المهربين بتصوير الأمور وكأنها سهلة.
استطاع إبراهيم أخيراً العثور على مهرّب، طلب منه مبلغ 3 آلاف دولار، تتضمّن " تظبيط" الضابط التركي أي الاتفاق معه بمعنى دفع رشاوي لقاء عبور آمن، إلّا أنّ المبلغ لم يكن متوفراً منه سوى ألفي دولار، خسرها كلها بعد أن قبلها المهرّب وباءت المحاولة بالفشل.
يقول "إبراهيم": إنّ المهرّب تركه هو و4 أشخاص آخرين، بالقرب من النقطة الحدودية لساعات، وبعدها جاء ليخبرهم أنّ ضابط الحرس قد تغيّر موعد مناوبته وعليهم الانتظار حتّى الفجر، فقضوا ليلتهم بالعراء، قبل أن يحين موعد العبور، الذي تمّ فجراً من خلال فجوة في سياج اسمنتي، على أن يجري غض النظر عنهم من قبل ضابط الحراسة.
إلّا أنّ الحرس قد ألقى القبض عليهم بعد قطعهم أقل من نصف كيلومتر داخل الأراضي التركيّة، وقام العناصر بالاعتداء عليهم بالضرب، وتسليمهم إلى ما يسمى "الجيش الوطني" التابع للمعارضة عند نقطة التفتيش الرسميّة، والذي أطلق سراحهم بعد ساعات.
المهربون هم المستفيدون الأوائل
يشير المصدر الآنف الذكر في "الحكومة السوريّة المؤقتة" لموقعنا، أنّ عمليات التهريب عبر طرق الشمال السوري، باتت مربحة لشبكات التهريب التي يسيرها أمن النظام السوري في مناطقه، وكذلك الشبكات التي تعمل في مجال التهريب في مناطق الشمال، مضيفاً أنّ شبكات التهريب في مناطق الشمال، غالباً ما تتبع لبعض النافذين في القوى المسلّحة التي تسيطر على المناطق، ولا سيما مناطق شرقي الفرات، حيث يجري تسيير قوافل لأشخاص قادمين من مناطق النظام، يعبرون بين مناطق "قوات سوريا الديمقراطية" شرقاً باتجاه مناطق سيطرة ما يدعى"الجيش الوطني" لغرض الدخول إلى تركيا.
وأكّد المصدر، أنّ معظم عمليات الدخول إلى تركيا تبوء بالفشل، بينما ارتفعت التكاليف بشكل كبير منذ عامين حتّى الآن، موضحاً أنّه حتّى العام 2019 كانت عمليات التهريب تجري عبر الجدران بمبالغ لا تتجاوز الألف دولار، في حين يجري الآن طلب مبالغ أكبر تحت مسوغات جديدة ومنها رشوة الضباط الأتراك، إلا أنّ نسب نجاحها لا تتعدى 1% حسب تقديره.