بين الجنسيّة والهويّة مسافة دلاليّة كبيرة، فبين الورق والتكوين، علاقة كتلك التي بين الاسم والمضمون، فأسماؤنا لا تعكسنا، فنحن ما نختزنه من تجارب وذكريات، وهي بنت المكان والأشخاص والحالات، التي تلقفتنا أو وجدنا أنفسنا بها عن دون قصد أو بدونه.
دائما ما أتعرّض للسؤال الشائع.. ما جنسيّتك؟ هذا السؤال الذي يختزن في عالمنا المهترئ أبعاداً، يرمي عبرها السائل، حشرك في محددات تعريفات جاهزة، يجيد التعامل مع أصحابها، فأجيبه بأنّي من مخيّم اليرموك، فيستقر ذهنه على أنّي فلسطيني سوري، وهو ما يستسهله الذهن عموما في تجريد الهويّات، بمسميّات رسميّة.
بين الجنسيّة والهوّيّة هوّةٌ واسعة يا سائلي، فبعضُ البلدان حالات اعتباريّة مجرّدة من الهويّة رغم قوّتها الرسميّة، وبعض الهويّات، حالات كيانيّة راسخة رغم إنعدام تجسّداتها الورقيّة، والمخيّم حالة هويّاتيّة عصيّة على التعريفات التقليديّة، تؤثّر ولا تتأثر كثيراً، إنّما تُنتج ما تشاء من حالات، وأنا ابن إحداها.
لا أتوانى حين أُسال من أين أنت؟ عن إطلاق إجابتي العفويّة الفوريّة: أنا من مخيّم اليرموك. فالحالة تدفعني لِأسقط أمام انتمائيّ لها، جنسيّتي وجذور أبي، وبلاداً بنخيلها وأنهرها، مغلّباً الهويّة اليرموكيّة على العراقيّة رغم عشقي للأخيرة، والجنسيّة هنا مجّرد ورقة.
بين الجنسيّة والهويّة في حالتي، علاقة "لاتبعيّة"، فالأخيرة لا تحتاجُ إلى الأولى حين تكون يرموك، تكتفي بألوانها الفاقعة في التكوين، أمام صخب المدن الأُخرى والبلاد الأُخرى، ولديكَ أكوامٌ من الأوراق الملوّنة إذا أردت، بطاقات الإقامات المؤقّتة، وأوراق لفاقدي الأوراق الثبوتيّة، وأخرى لمحظورين من السفر لأسباب ورقيّة، أناسٌ مجروحون في اعتباريّاتهم القانونيّة، ناجون من المجازر الفالتة بفعل الصدف، أسرى هزائم معارك الثورة والانتكاسات، والكثير من العابرين أيضاً.
جمعهم مخيّمٌ، "مجالٌ ، خيمةٌ، و يمٌّ"، نشأتُ في عمق ثلاثتها، بين صناديق الحجارة في اليرموك!، فمكان مولدي، كاملٌ في بواطنه وظواهره، مخيّمٌ والحروف دلالات، ترفع المعنى الى حالة عليا، حين تخجل من الاستمرار في الاختزال الحرفيّ، فهو حالة انتماء لا تنطبق عليها التعريفات، ولا تجسيدات تقليديّات الأمكنة في الإداريّات، فالحالة فوق مخيّم أو بلدة أو حيّ، وتعوم فوق المدن.
هي حالة هويّاتيّة، بلورت انتمائيّ لفضاء، حررني من فروض "الطبيعيّة الإنتمائيّة" وضيقها، إن صحّ التعبير، رغم امتلاكي لمقتضياتها "جنسية وبلد"، فالحالة هنا متميّزة بفرادتها بما هي مُنتجةٌ لروحيّات، تشكّل فلسطين بما هي عقيدة تحررية وقضيّة عربية انسانيّة عمادها، فحالة المخيّم جسّدها أيّما تجسيد، حتّى وجدتُ فيها عراقيّتي التي لم أعرفها هناك في بغداد وديالى، بل تقمصتها في اليرموك، في هتاف أهله لقضيتهم العراقيّة، وما بذلوه من شهداء ضد الغزو الأمريكي، جنازات تشييعهم الهمتي العراق في صغري، وجعلتني أبحث عنه في من سبقوني اليه من أبناء هويّتي اليرموكيّة.
لا أحتاج يا سائلي، سوى هذا التعريف، يرموكيّ أنا وكفى، و في التركيب التكويني ثمّة سمةٌ غامضة، تحتاج الى سرد لا يُستبينُ في السرد المخطوط، يحتاج الى من يفهم لغة الرئتين، وفك رموز الصوت حين يتحدّث اليرموكيّ عن النشأة والمسار، عن من يجيد مقاربة المسائل العالقةً، ويفنّد سجالات الهويّة التقليديّة، ليدرك طبيعة التكوين اليرموكيّ، في ما يتضمّنه من تناقضات، فهويتي رصينة ومرتبكة، لكّنها راسخة، أحملها وتدلل عليّ وأدلل عليها، ومسارها مستمر، رغم توالي النكبات.