الفن المقاوم: أكثر من مجرد لوحات وألوان

الفن في المخيمات الفلسطينية في لبنان.. إبداع جمالي وفني وقيمة نضاليّة

الأحد 06 يوليو 2025

زوايا المخيّمات الضيقة، التي تتراكم الذاكرة وتضيق المساحة، يزدهر نوعاً من الفنّ لا يشبه الفن الاستهلاكي العابر، بل يحمل في تفاصيله حكاية شعبٍ يقاوم بالقلم والريشة كما يقاوم بالحجر والسلاح، فهنا، لم تكن الريشة ترفاً، بل فعل تحدٍّ مليء بالمحددات الجمالية والإبداعية.

 رسم اللاجئون جدران منازلهم، وزيّنوا جدران المدارس برسائل العودة، ورفعوا وجوه الشهداء على الجدران بدل أن تبتلعها الغربة. وفي وجه التهجير والنكبات المتكرّرة، اختار الفنانون الفلسطينيون، من داخل المخيمات وفي الشتات، أن يمسكوا بالريشة كأنها بندقية، يرسمون بها الذاكرة، ويخلّدون تفاصيل الوجع، ويزرعون الأمل في عيون الجيل الجديد.

بدايات وحكايات: أولى خطوات الفن المقاوم

لكل فنان مقاوم في المخيمات الفلسطينية قصة تبدأ من الطفولة، وتروى على جدران تآلفت مع أسماء الشهداء وخارطة فلسطين، وتنسج قصص كل فنان من وحي الألم والحنين والهوية. كما مع الفنانة تانيا نابلسي، المولودة عام 1986 في مدينة نابلس المحتلة، وتربّت في مخيم البدّاوي شمال لبنان، والتي بدأت رحلتها مع الرسم في سن مبكرة جداً.

تقول تانيا لبوابة اللاجئين الفلسطينيين :"كنت طفلة تبحث عن وسيلة للتعبير، وعندما بدأت بمسك القلم على الورق، وجدت في الرسم ملاذاً وصوتاً لأفكاري. كبرت الموهبة مع وعي وطني وإسلامي عميق، فكان الفن المقاوم جزءاً لا يتجزأ من هويتي".

تخرجت تانيا عام 2008 من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، حيث صقلت موهبتها ومهاراتها، ثم اختارت أن تجعل من فنها رسالة صادقة وقوة مقاومة.

لوحة لتانيا النابلسي.jpg
لوحة جدارية للفنانة تانيا النابلسي

أمّا علي عبد العال، المولود عام 1968 في بلدة الغابسية بفلسطين، نشأ في مخيم نهر البارد وسط بيئة فنية عائلية تنتمي إلى فصيل وطني فلسطيني. في بيئة عائلته التي تضم عدة فنانين، نمت موهبته منذ الصغر، ويقول: "منذ طفولتي، كانت فلسطين حاضرة في كل لوحة أرسمها، وعندما كانت السنوات الأولى في حياتي تشهد نضالاً شعبياً مستمراً، ترسخت لدي فكرة أن الفن هو تعبير نضالي ومسؤولية وطنية".

لوحة لعلي عبد العال.jpg
لوحة للفنان علي عبد العال

وكذلك وسام إبراهيم رضا داود، المعروف بوسام رضا، ولد عام 1980 في مخيم نهر البارد شمال لبنان، وعاش طفولته في أسرة فقيرة وهو الأصغر بين أربعة إخوة. فقد والده في حرب الانشقاق عام 1983 عندما كان عمره لا يتجاوز الثلاث سنوات، ونشأ في مؤسسة بيت أطفال الصمود التي رعت الأيتام، ووفرت له بيئة تعليمية فنية.

في الصف الثاني الابتدائي، بدأ وسام يرسم بقلم الرصاص والألوان الخشبية، وحصل على دعم من المؤسسة ودورات تدريبية محلية وعالمية. فلسطين كانت حاضرة في كل رسوماته من بداية مشواره الفني، إذ يقول: الفن هو وسيلة التعبير عن المشاعر الوطنية، وعن معاناة شعبي في ظل الاحتلال واللجوء".

جدارية لوسام رضا.jpg
لوحة جدارية للفنان وسام رضا

جنين أحمد القاضي، الشابة البالغة من العمر 23 عاماً، من سكان مخيم نهر البارد، بدأت في التعبير عن وطنها من خلال الرسم منذ سنوات طفولتها الأولى. ترى جنين أن الفن كان الوسيلة التي يمكنها من خلالها إيصال صوت شعبها للعالم، والتعبير عن المآسي والانتصارات بطريقة إنسانية عميقة: وتقول: الفن المقاوم ساعدني في إيصال مشاعر الحزن والأمل، من خلال لوحات تتحدث عن الأطفال تحت القصف، والأمهات عند بوابات السجون، واللاجئين المتمسكين بمفتاح العودة".

من أعمال جنين القاضي.jpg
من أعمال جنين القاضي

الفن المقاوم: أكثر من مجرد لوحات وألوان

الفن المقاوم الفلسطيني ليس مجرد عرض جمالي، بل أداة نضالية تعكس هوية الشعب الفلسطيني ونضاله. الريشة هنا سلاح يعبر عن الألم والصمود في مواجهة الاحتلال.

تقول تانيا نابلسي في هذا الصدد: "الفن هو رسالة صادقة لا تهدف إلى التجميل، بل صوت المقاومة ونقل المعاناة والكرامة." فيما يؤكد علي عبد العال: "الفن المقاوم منبر للتعبير عن الهوية والنضال، وسلاح يُستعمل إلى جانب أشكال المقاومة الأخرى".

أما وسام رضا فيرى: "الفن ترجمة حقيقية للواقع، يحمل رسالة تفضح الاحتلال، وتوثّق لحظات الألم والكرامة". فيما تقول جنين القاضي: "لوحاتي ليست زخرفة، بل صرخة طفل تحت الركام، وأمل لا يموت في قلب لاجئ متمسك بحقه في العودة".

الرموز والأساليب الفنية: لغة الفن المقاوم

ويتسم الفن الفلسطيني المقاوم باستخدام رموز وألوان عميقة الدلالة تعكس الهوية والتاريخ والمعاناة، فهي ليست زخرفة، بل سرد بصري يربط الماضي بالحاضر، ويخاطب وجدان المشاهد.

تقول تانيا نابلسي: "أدخل في لوحاتي تطريزات فلسطينية تقليدية كجسر بين الأصالة والحداثة، وأستخدم ألوانًا تخدم المعنى، وليس فقط ألوان العلم".

أما علي عبد العال، فيعتمد الألوان التعبيرية، مثل الأصفر رمز الأمل، مع أشكال تجريدية تعبّر عن أحاسيس وآمال الشعب الفلسطيني بطريقة مؤثرة. فيما يجمع وسام رضا بين الأسلوب الواقعي والتعبيري، مستخدمًا الأكرليك والألوان المائية على القماش والجدران، مع إبراز رموز وطنية كالأسلاك الشائكة والأقصى والكوفيّة لتقوية الرسالة.

وتستخدم الفنانة جنين القاضي رموزا وطنية مثل المفتاح والكوفية والزيتون، مع ألوان الأحمر (الدم والشهادة)، الأخضر (الأمل)، والأسود (القهر)، لترسم توازنًا بين الألم والأمل في أعمالها.

ويبرز في هذا الفن في المخيم، تنوّع الأساليب بين التعبيري، الواقعي، والتجريدي بحسب الرسالة، حيث يركز بعض الفنانين على التعبير بالمواقف بدل التفاصيل، بينما يستخدم آخرون التجريد لإثارة المشاعر، فالرموز والألوان والأساليب تشكل لغة الفن المقاوم التي توحد الفنان والجمهور، وتحمل رسالة الصمود والهوية والذاكرة لشعب فلسطيني لا ينكسر.

التحديات أمام الفنان الفلسطيني 

ويواجه الفنانون الفلسطينيون المقاومون تحديات كبيرة تعيق مسيرتهم الفنية، وتقلل من فرص إيصال رسالتهم. وتشير تانيا نابلسي إلى القيود التي تفرضها بعض المؤسسات مثل وكالة "أونروا" على أعمالها؛ بسبب احتوائها على رموز المقاومة وتقول: "هناك محاولات لفصل الأجيال القادمة عن مفهوم الكفاح المسلح أو حتى فكرة التحرير، ويفضلون الفن الناعم الخالي من الألم، وهذا يتناقض مع حقيقة معاناتنا".

كما يعاني الفنانون من صعوبات مادية واقتصادية، فالأوضاع الصعبة في المخيمات تحد من توفر الموارد، كما يوضح وسام رضا.

فيما يؤكد علي عبد العال غياب الدعم الرسمي ويضيف: "لا يوجد دعم رسمي للفنان الفلسطيني المقاوم، ونحن نعتمد على أنفسنا لتأمين الموارد ومتابعة العمل". أما اتهامات التحريض والمبالغة، فهي بالنسبة لهم دليل صدق الفن، كما تقول تانيا نابلسي: "كيف يمكن أن تكون المبالغة في رسم حقيقة نعيشها يوميًا؟ الاحتلال ذاته هو المبالغة بعينها".

بالإضافة لذلك، يشير علي عبد العال إلى تراجع اهتمام الشباب بالفن التقليدي لصالح التكنولوجيا، ما يضيف مسؤولية كبيرة على الفنانين للحفاظ على الفن المقاوم ونقله للأجيال القادمة. ورغم هذه التحديات، يبقى إصرار الفنان الفلسطيني على المقاومة عبر فنه، وتحويل الألم إلى صمود مرئي وقوي لشعبه.

تفاعل الجمهور وأهمية الفن في بناء الوعي الوطني

يعد تفاعل الجمهور مع الفن المقاوم مؤشراً مهماً على نجاح الرسالة التي يحملها الفنان الفلسطيني، إذ يبقى الفن جسرًا بين القضية والإنسان، وبين الوجدان والذاكرة الوطنية رغم الظروف الصعبة. تقول جنين القاضي: "اللوحات التي أرسمها تعكس قصص أطفال تحت القصف ونساء في انتظار العودة، فتخلق تواصلًا وجدانيًا يشعل شرارة الوعي والتغيير".

ويشير وسام رضا إلى ترحيب المجتمع الفلسطيني بأعمالهم، خاصة في المخيمات حيث الجداريات جزء من الحياة اليومية، لكنه يؤكد ضرورة الاستمرارية والدعم قائلاً: "الجميع يتفاعل مع الفن المقاوم، لكنه يحتاج إلى تعزيز دائم".

 علي عبد العال يرى أن الفن قد لا يحرر الأرض مباشرة، لكنه يحرر العقول، ويغرس قيم العزة والانتماء ويقول :"الفن يزرع بذور الوعي، ويغذي المشاعر الوطنية".ويضيف أن للفن أهمية تعليمية وتوعوية في نقل التاريخ والهوية، خصوصًا مع محاولات الاحتلال طمس الذاكرة الفلسطينية. لذلك يحرص الفنانون على المشاركة في المعارض وورش العمل الموجهة للأطفال والشباب.

فيما تقول تانيا نابلسي حول هذه النقطة:"التوعية تبدأ من الأطفال والشباب، والرسم على جدران المخيمات وسيلة لتثبيت الذاكرة الوطنية يومياً".

المستقبل: تطوير ودعم الفن المقاوم من وجهة نظر الفنانين

وترى تانيا النابلسي أن الحفاظ على الفن المقاوم وتطويره يبدأ بالوفاء لهويته العميقة، مع التركيز على تأسيس حاضنات فنية مستقلة تحمي الفنان من أن يفرغ فنه من مضمونه وتقول :"يجب تعليم الأطفال أن يرسموا خريطة بلادهم قبل أن يتعلموا كتابة أسمائهم، فالفن المقاوم واجب إيماني ووطني، لا ترف ثقافي".

فيما يؤكد علي عبد العال على أهمية دعم الفنان ماديًا ومعنويًا، ويدعو المؤسسات الفلسطينية إلى الاهتمام بأعمال الفنانين، وإقامة معارض داخل وخارج فلسطين لتعزيز حضور الفن المقاوم ويقول: "الفنان الفلسطيني يعتمد على جهوده الذاتية، ونحن بحاجة إلى دعم حقيقي يجعل الفن طريقاً مستداماً وليس هواية".

أما وسام رضا يلفت إلى ضرورة استثمار التقنيات الحديثة، كالرقمي والفن التفاعلي، لنشر الرسالة الوطنية بوسائل معاصرة ويقول: "الفن المقاوم يجب أن يتطور مع العصر، وعلينا استغلال الفنون الرقمية كأدوات فعالة للتوعية والتعبئة".

أما جنين القاضي تشدد على أهمية دمج التعليم الفني في المناهج، وخاصة في المخيمات وقالت:" المستقبل بحاجة إلى أجيال تنمو على فهم عميق لهويتهم وتاريخهم، والفن هو الوسيلة الأقوى لترسيخ هذا الوعي".

هنا يظهر أن الفن المقاوم الفلسطيني ليس مجرد وسيلة للتعبير الجمالي، بل هو فعل سياسي وثقافي متجذر في التجربة الفلسطينية الجماعية. هو وثيقة بصرية تقاوم النسيان، وتعيد تشكيل الوعي، وتعبر عن الحلم والجرح في آن واحد.

فمن خلال شهادات الفنانين الأربعة تانيا نابلسي، علي عبد العال، وسام رضا، وجنين القاضي، يتّضح أن الفن المقاوم يمارس بوصفه التزاماً أخلاقياً لا مهنة فنية فقط. تنبع أعمالهم من المعاناة اليومية، وتتغذّى من الذاكرة، وتطمح إلى تغيير الوعي، خاصة لدى الأجيال الشابة.

ورغم التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يثبت هؤلاء الفنانون أن الريشة قادرة على أن تكون بحجم البندقية، وأن اللون بإمكانه أن يُدوّي كالرصاص حين يُعبّر عن وطنٍ مسلوب وكرامة مأزومة وهوية محاصرة، فيما يُرى أن الحفاظ على هذا النوع من الفن ودعمه ليس ترفاً ثقافياً، بل هو ضرورة وطنية، لأن الذاكرة التي لا تجد من يرسمها قد تنسى، والحق الذي لا يصوّر قد يطمس، فالفن المقاوم هو تأريخ بصري لمعاناةٍ وصمودٍ ممتدّين، وهو أحد وجوه المعركة المفتوحة من أجل الحرية والكرامة والعودة.

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد