عتاب الدقة
انقضت الأحداث، ودفن جثمان الطفل "محمد وهبة" وغادرت روحه عالماً قاسياً ظلم قبله أباه وجده ومن ينتمون إلى جيلهما من اللاجئين الفلسطينيين، ولكن لم تنته الحكاية ..
إذ لا عزاء اليوم لعائلة الطفل اللاجئ الفلسطيني في لبنان، والذي قضى في أحد مستشفياته سوى بمزيد من التحقيق في الحادثة الموجعة، ووقوف المسؤولين، فلسطينيين ولبنانيين، عند مسؤولياتهم عن موت طفل، وحرقة قلب أب، ولوعة أم ..
البيانات الصادرة عن كل من وزراة الصحة اللبنانية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" واللجان الشعبية الفلسطينية جميعها تحاول إقناع الجمهورين الفلسطيني واللبناني أن الجميع قام بواجبه، وأن ما جرى كان قضاء وقدراً ..
وفيما كل المقاطع المصورة والمناشدات من داخل أحد مشافي طرابلس قبل وفاة الطفل، تؤكد أن الطفل لم يتمكن من الحصول على سرير في غرفة عناية متخصصة بحالته، بسبب عدم تمكن أهله من دفع مبلغ ألفي دولار، تصر الجهات التي أصدرت البيانات أن لا علاقة لفقر اللاجئ الفلسطيني والد الطفل بالأمر، أو تقاعس الجهات المعنية عن الإسراع في التعامل مع حالة هذا الطفل.
إذاً، من أين نبع ذلك الغضب الشعبي؟
الجواب، بفعل ما راكمه اللاجئون الفلسطينيون من قهر خلال عقود مضت، وبفعل تجاربهم السابقة سواء مع من يفترض أنه ممثل رسمي لهم وهو منظمة التحرير الفلسطينية، أو مع الفصائل التي تخاطب وتمارس سلوكياتها السياسية باسمهم، أو مع وكالة الأونروا المفوض الوحيد لإغاثتهم حين المرض والجوع والبطالة وحلول الأزمات، وأيضاً مع القوانين اللبنانية السائدة .
اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، ومن وقف معهم من اللبنانيين لم يصرخوا في الشوارع والأزقة والمخيمات ووسائل التواصل الإجتماعي غاضبين، من أجل حادثة الطفل "محمد" فقط ، هم صرخوا جرّاء وجع مستمر منذ أكثر من ستة وثلاثين عاماً .
وجع كتب على الفلسطيني في لبنان تجرع مرارته، فقراً وبطالةً وحرماناً من خدمات الاستشفاء، والحقوق الإجتماعية والإنسانية، وليس المسؤول عن كل ذلك الجانب اللبناني فقط، فلو كان للاجئين الفلسطينيين قيادة سياسية مسؤولة لاستطاعت تحصيل حقوقهم الإنسانية، ولما كان موت أبناء اللاجئين الفلسطينيين يباع مجاناً، بحجج تقليصات خدمات "الأونروا" أو عدم امتلاكهم لتأمين صحي، وحتى بسبب الإجراءات البيروقراطية في المشافي، ولا أيضاً بسبب "التشديدات الأمنية على المخيمات في لبنان"
قبل وفاة محمد، قضى اللاجئ الفلسطيني في مخيم برج البراجنة عبد الرحيم حسين، بعد أن سقط عليه سقف منزله المتهالك.
بررت "الأونروا" عدم الاستجابة لمناشداته السابقة بترميم منزله، والتي أدت إلى وفاته، بعدم استطاعتها تأمين تصريح لإدخال مواد البناء إلى المخيمات بسهولة، وبهذا أخلت مسؤوليتها عن إزهاق روح وتيتيم أطفال، وتلويع أهل، وخلق خوف يقتنص الهناءة والسلام من نفوس اللاجئين، فحواه "أن من سيكون الضحية التالية منّا؟ طالما الوضع بقي على حاله، وطالما بيوتنا لم ترمم، وملف إصلاح شبكات الكهرباء- وقد قتلت العشرات- في مخيماتنا ما يزال برسم "الأونروا" واللجان الشعبية المنبثقة عن منظمة التحرير والفصائل، ولا يوجد من يحاسب المسؤولين داخل الجهتين!!"
وبهذا يصبح اللاجئون الفلسطينيون في لبنان حبيسي القلق من أن موتاً محتملاً، لأي سبب محتمل، قد يباغتهم، وقد لا يكون حدوثه مبرراً في بقاع أخرى من العالم، ولكنه فعلاً يهدد مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، لأن وضعهم القانوني في هذا البلد مختلف، ولأن حيواتهم وكل سبل عيشهم رهينة التنازعات السياسية الداخلية في هذا البلد، وقوانينه المجحفة بحقهم، والأهم من كل ذلك لأنهم أيتام حقيقيون كنظرائهم اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، وغيرها من دول اللجوء والشتات، لا قيادة سياسية تقف خلفهم، تحاسب من يجرؤ على مس أمنهم، تطرح قضاياهم أمام الطبقات السياسية الحاكمة في هذه البلدان، وأمام "الأونروا"، والمجتمع الدولي، وتصر على تحصيل حقوقهم، وتثبت قدرتها على تحصينهم من الذل والموت، لذا يصبح موتهم عادياً، لا يثير قلق أحد، لأن أحداً لن يُحاسب، ولأنهم الحلقة الأضعف، بفعل ضعف الموقف الرسمي الفلسطيني، وإنقسامه، أمام السلطات في دول اللجوء، وبفعل تورطه أحياناً في ملفات الفساد داخل الأونروا واللجان الشعبية.
لا يستحق اللاجئون الفلسطينيون في لبنان وسوريا ودول الشتات كل هذا النكران، وهذه اللامبالاة، هم يدركون جيداً، أن لا إرادة سياسية حقيقة فلسطينية وعربية لدعمهم، وتوفير سبل صمودهم في وجه ما يُحاك من مخططات دولية وصهيونية لتصفية قضيتهم، وأن كلّ ما يسمعونه ويشاهدونه في وسائل الإعلام من تحركات ولقاءات وتصريحات لمسؤولين فلسطينيين ولبنانيين وعرب تتحدث عن " الجهود للحفاظ على حقوقهم وأولها العودة، مجرد كلام يخلو من الأفعال الجادة والحقيقية، لذا نراهم، حين يتلوعون من موت "طفل" يصرخون بملء حناجرهم، ويملؤون العالم – الحقيقي والافتراضي- ضجيجاً هم ومن يقف معهم من الشعوب الحيّة، ويتداعون للتحرك كما جرى في طرابلس وبيروت، في محاولات لتحصيل حقوقهم، الإنسانية والسياسية.
هم لا يرجون أكثر من حياة كريمة لا يخشون فيها من موت جراء مرض يُعجز عن علاجه بسبب الفقر، أو تهالك منزل أو تدلي سلك كهربائي في أحد أزقة المخيمات البائسة معيشياً، حياة طبيعية تساعدهم على المضي في نضالهم من أجل تحصيل حقهم الأول في فلسطين، وهذا ما لا يريده الاحتلال، وربما هذا سبب خذلانهم في زمن "الانحطاط السياسي الفلسطيني والعربي"!.