صابر حليمة 

راهن الصهاينة الأوائل على موت الآباء ونسيان الأبناء، ولكن، ها هي إحدى وسبعون سنة مرت، وأجيال اللاجئين المتتابعة لم تنس أو تتنازل، وبقيت عُرى الوطن أقوى من رهان الزمن..

أينما تجولت في مخيم برج البراجنة، ستسمع أو تقرأ حتماً شيئاً عن ترشيحا. فالقرية، التي تنحدر النسبة الأعلى من اللاجئين الفلسطينيين في المخيم منها، بقيت حية في نفوس أجيال النكبة المتعاقبة، وارتباطهم بها وبالباقين فيها وثيقةً، حتى يُخيل لزائري المخيم أن أهله يزورون ترشيحا مراراً لشدة معرفتهم بها وبأخبارها.

فما هي قصة هذه القرية؟ وكيف أجبر معظم أهلها على تركها؟

ترشيحا: ثلاث روايات حول أصل الاسم

لا بد من التعريج بداية حول أصل التسمية، إذ تختلف الروايات حول اسم عروس الجليل: ترشيحا.

تتحدث الرواية الأولى عن أن الاسم الأصلي هو "طرشيحا"، ويتألف من جزئين: "طور" بمعنى الجبل، و"شيحا" نسبة لنبات الشيح الموجود بكثرة فيها، أي أن الاسم تحوير لـ "جبل الشيح".

ولكن ثمة رواية تاريخية أخرى، يتناقلها أهالي القرية، وتقول بأن الاسم يعود إلى كلمتي "طار شيحا"، ويُقصد بها القائد في جيش صلاح الدين الأيوبي، شيحا جمال الدين، والذي، حسبما تقول الرواية، أنه حينما قُتل، طار رأسه وهبط حيث تقوم ترشيحا اليوم، فقال الناس: "طار شيحا".

آخر الروايات، وهي الأقل تداولاً، تذكر أن شاعراً ظمآناً مر يوماً بترشيحا، فطلب الماء من فتاة في القرية، وحينما روي قال: "رشحتني الفتاة بمائها ترشيحا".

ترشيحا قبل النكبة

على جبل المجاهد شمال فلسطين في الجليل الغربي، تقع قرية ترشيحا.

تبعد 16 كم عن شاطئ البحر المتوسط شرقاً، و25 كم عن الحدود اللبنانية جنوباً، و27 كم عن عكا.

ولارتفاعها نحو 600 متر عن سطح البحر، تتميز القرية بمناخ فريد.

تعتبر ترشيحا منطقة مواصلات هامة إذ تمر بها جميع الطرق الواصلة بين القرى المحيطة بها، ما جعلها مركزاً للكثير من الأعمال والخدمات، وخصوصاً "سوق البلد"، الذي كان يقام في شوارع البلدة القديمة والذي لا يزال يقام اليوم في شارع السوق في مدخل البلدة.

 

(ترشيحا عام 1938 – موقع "فلسطين في الذاكرة")

 

أما من ناحية التعداد السكاني، فقد كان عدد القاطنين في ترشيحا عام 1922 نحو 1880 نسمة، ووصل سنة 1948 إلى 5700 نسمة، وهو أكبر من عدد سكان البلدة اليوم البالغ 4500 نسمة. 

كان أعلى صف في مدرسة ترشيحا للبنين عام 1945 هو السابع الإبتدائي، فيما كان السادس الإبتدائي هو الأعلى في مدرسة البنات.

كان الإقبال على التعليم في ترشيحا شديداً، إذ وصل عدد طلاب المدرسة سنة 1937 إلى 350 طالباً، وبلغت نسبة الذين يقرؤون ويكتبون من الرجال إلى أكثر من 70% في نهاية الثلاثينيات.

 

مسجد قرية ترشيحا 

 

ترشيحا هدف هام في عملية "حيرام" الإجرامية

كان نصيب ترشيحا من جيش الإنقاذ العربي هو فوج "أجنادين" والسرية اليمنيّة وفصيل مدفعية 105 ملم. وأنيطت قيادة هذه المنطقة بالمقدم مهدي صالح، آمر فوج "أجنادين"، الذي سلم له أيضاً مسؤولية الدفاع عن منطقة مجد الكروم والبروة.

وصلت الكتيبة إلى ترشيحا في 18 كانون الثاني/يناير عام 1948، وتمركزت حول التلال المحيطة بالقرية، وشاركت الكتيبة مع أهالي القرية في معركة "جدين" في 20 كانون الثاني/يناير 1948، ومعركة "الكابري" في 28 آذار/مارس 1948 إلى جانب معركة "تين أو شريتح" في 11 حزيران/يونيو من العام نفسه.

في أواخر أيلول/سبتمبر عام 1948، كان الجزء الأكبر من شمال فلسطين قد احتل من قبل العصابات الصهيونية، ولم يبق إلا جيباً مقاوماً وحيداً: الجليل الأعلى.

مع بداية الشهر التالي، شرعت قيادة العصابات الصهيونية بوضع خطط للتخلص من "مصدر الإزعاج" هذا، لتكتمل بذلك خطة للسيطرة على الجليل الأعلى وتثبيت خط عسكري على طول الحدود الشمالية، وعرفت بـ "عملية حيرام"، بتوجيه وقيادة الإرهابي موشيه كرمل.

وفي تفاصيل الخطة، تقوم وحدات اللواء "جولاني" بهجوم تضليلي على قوات جيش الإنقاذ في الجنوب والجنوب الغربي لجذب انتباهها هناك، بينما تقوم القوة الرئيسية المُشكَّلة من اللواء السابع بكتائبه الثلاثة وسرية الشركسي واللواء "عوديد" بالإطباق على قوات جيش الإنقاذ بشكل "حركة كماشة".
 

(جنديان صهيونيان يشاركان في عملية "حيرام"، تشرين الأول/أكتوبر 1948)

 

وضمن هذه العملية، ارتكبت العصابات الصهيونية مجازر فظيعة في قرى فلسطينية ولبنانية، في الصفصاف، وسعسع، والبعنة، ونحف، ودير الأسد وعيلبون، والمالكية، وصلحة، وحولا.. وترشيحا.

الهجوم الكبير وسقوط آخر معقل مقاوم

كان حقد الصهاينة على ترشيحا كبيراً، كيف لا، وقد فعلت ما فعلت من المعارك.

بعد ظهر يوم الخميس، الواقع في 28 تشرين الأول/أكتوبر عام 1948، حلقت الطائرات الصهيونية، بقيادة الإرهابي إيبي ناتان، في الجهة الشمالية الغربية للقرية، ظن الأهالي أن طائرات سورية أتت دعماً لهم، إلى أن ألقت تلك الطائرات المُهاجِمة قنابلها قرب مركز السرية ومرابص المدفعية، وبعد ساعة بدأت قذائف المدفعية تسقط على ترشيحا.

كانت المدفعية تطلق من خمسة مواقع: جدين وتين أبو شريتح ومن مستعمرة "جليل" ومن تل الوقية ومن البحر، وقدّر مجموع القذائف في تلك الساعة بنحو خمسين قذيفة.

استمر القصف طوال الليل، وكان رد جيش الإنقاذ هزيلاً لدرجة أنه أطلق عشرين قذيفة دون توجيه، لتسقط كلها في مناطق بعيدة عن وجود المهاجمين الصهاينة.

في اليوم التالي، وعند الخامسة صباحاً تقريباً، ألقت ثلاث طائرات قادمة من شمال البلدة براميلها المتفجرة على القرية، حاول الأهالي ببنادقهم المتواضعة إطلاق الرصاص على الطائرات، ولكن دون جدوى.

كان وقع الدماء والدمار المهول كبيراً على أهالي القرية الذين شرعوا بالتوجه شمالاً عبر وادي المسقي إلى دير القاسي وفسوطة، ثم عبروا الحدود وتجمعوا على بركة بنت جبيل، ونقلوا بعدها إلى البص في صور، وحمّلوا بالقطارات وتم توزيعهم في مخيم برج البراجنة بالعاصمة بيروت، ومخيم النيرب في حلب، وقسم منهم في حمص وحماة ودمشق.
 

(فلسطينيون يمشون نحو لبنان عقب تهجيرهم من قراهم في الجليل عام 1948)

 

لم يدخل المحتلون القرية إلا بعد ثلاثة أيام من رحيل أهلها والمقاتلين فيها – كانت السرية اليمنيّة آخر وحدات جيش الإنقاذ خروجاً من ترشيحا – وكان الصهاينة لا يدخلون بيتاً إلا قذفوا داخله عشرات الطلقات خوفاً من وجود المقاومين.

المجرم لا يمكن أن يتحوّل إلى "داعية سلام"

كما أسلفنا، كان المجرم إيبي ناتان هو من قام بقصف قرية ترشيحا، وأوقع فيها الكثير من الشهداء تحت أنقاض منازلهم.

حاول ناتان، في سني عمره التي توقفت عند الحادية والثمانين، أن يلبس ثوب "السلام" زيفاً، حيث حلق بطائرته في شباط/فبراير عام 1966 إلى مصر مدعياً حمل "رسالة سلام".

وقام بعدها بجولات في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة وروسيا بهدف "الدفع بالسلام في الشرق الأوسط"، وجمع أموالاً لتقديم المساعدات لناجين من الكوارث الطبيعية والمجاعات والحروب.

 

(المسؤول عن قصف ترشيحا، الإرهابي إيبي ناتان، في عام 1966)

 

عقب عشرات السنين، وتحديداً في عام 1995، جاء ناتان إلى ترشيحا ليعترف لفاطمة الهواري، الناجية الوحيدة من قصف استهدف منزل عائلتها خلال النكبة، وأصيبت على إثره بشلل دائم.. لكن جواب فاطمة كان: "إنني على استعداد أن أسامحك بشرط أن تعيد إلي رجلي"..

توفي ناتان عام 2008، ولم تفلح دعواته المزعومة للسلام، برغم الضخ الإعلامي والدعايات المتواصلة، بإزالة آثار دماء ترشيحا الملطخة على يديه..

أهالي ترشيحا يحيون باستمرار ذكرى احتلال قريتهم

دأب الباقون في ترشيحا، منذ أربعة عشر عاماً، على إحياء ذكرى سقوط القرية.

وهكذا، شارك أهالي القرية في مسيرة المشاعل الصامتة في طرقات البلدة القديمة، وتوقفوا على عدد من البيوت التي نجت من القصف الذي طال القرية عام النكبة، ورفعوا لافتات عليها أسماء عائلات القرية حول دوار الزيتون وسط البلدة.
 

لافتات بأسماء عائلات قرية ترشيحا في وقفة على مدخلها
خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد