جزء كبير من طفولتي قضيته في بيت جدي رحمه الله في مخيم الرشيدية، الأقرب إلى فلسطين، الأجمل بين مخيمات اللاجئين في لبنان.. بساتين خضراء، مدرسة أونروا كبيرة نسبياً، ملعب كرة قدم، عين ماء، شاطئ بحر، وسكة حديد معطلة.
كنت أعتقد على نحو ما أن المخيم جميل إلى هذا الحد لقربه من فلسطين، وما كان يزيد من قناعاتي هذه، أننا كنا كلما اتجهنا جنوباً في سيارة الأجرة من مخيم برج البراجنة نحو صور، كلما صارت الطريق أجمل، وازدادت خضرتها. أفتح نافذة السيارة، آخذ ما تيسر لي من الهواء، وأحاول أن أحتفظ به أطول مدة ممكنة في صدري، فالجنوب بلادي.
كان الرشيدية مخيماً بسيطاً بناسه، تستطيع أن تلمس معاناة شبابه مع فرص العمل بشكل أوضح مما هو عليه الحال في مخيمات بيروت، وعرفت في الرشيدية بعض الشباب الجامعيين الذين كانوا يعملون في قطف الليمون من البساتين، وآخرون فضلوا أن يعملوا على "الخط" حسب لهجتهم، أي على سيارات التاكسي بأجور زهيدة فعلاً، ثم كبر هؤلاء واختفوا فجأة، وقدر الله لي أن ألتقي بعضهم هنا حينما انتقلت للعمل في أوروبا.
إن أبرز ما يمكن أن يرفع من ظاهرة تفلت السلاح في مخيماتنا، وانتشار المخدرات هو ارتفاع معدلات البطالة، غياب الأفق الوطني وبالتالي تغييب المعنى السياسي لوجود هذه المخيمات، تشتت العائلات بين عواصم العالم والمخيم، غفلة الفصائل الفلسطينية عن كل ذلك وانشغالها بتعزيز نفوذها المسلح عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه اللاجئون.
ليس الرشيدية وحده الذي يشهد ظاهرة تجارة المخدرات والسلاح، فمثله شاتيلا وبرج البراجنة في بيروت، والحال واحدة.. يُترك التجار على راحتهم يسرحون، يبنون نفوذاً عسكرياً، تسهّل جهات من هنا وهناك دخول السلاح إليهم، ثم في ليلة ما تحدث جريمة قتل، يخسر المخيم أحد أبنائه، يغضب الناس.. وتبدأ مسرحية الفصائل وحسمها العسكري.
معروف أن الكفة العسكرية والأمنية تميل لصالح حركة فتح في الرشيدية على وجه الخصوص، لذا فهي مطالبة اليوم إلى جانب الفصائل الأخرى بتسليم الضالعين في الأحداث الأخيرة بغض النظر عن خلفياتهم التنظيمية.
وعلينا جميعاً أن ننبذ هذه الظواهر المسيئة لنا كفلسطينيين ونحاربها اجتماعياً عن طريق رفع الوعي بين الشباب واستثمار طاقاتهم في الطرق الصحيحة والمفيدة وهي كثيرة، خصوصاً وأننا على أبواب مرحلة جديدة من نضالنا الوطني، لا بد خلالها أن يعاد تفعيل دور المخيمات الفلسطينية بأطره المختلفة، بداية من رفع الوعي السياسي وتفعيل العمل في هذا الميدان، وانتهاء بإعداد العدة للانخراط في معركة حقيقية مع الاحتلال، وبغير هذا وذاك معاً، لن تزداد حياة المخيمات مع الأيام إلا بؤساً.