للتراث الفلسطيني لغة خاصّة في وصف فلسطين ورسم ثقافتها ورواية تاريخها. فهو يتجلى من خلال الأدب والموسيقى والأغاني الشعبية القديمة، والأزياء التي تتسم بالتطيرز .. هذا الفن الذي يأخذ حيّزا مهما من الصورة الفلسطينيّة.
وفي معرض إحياء يوم الزي الفلسطيني الذي يصادف الخامس والعشرين من تموز/ يوليو في كل عام لا بد من الحديث عن التطريز الذي يشكل السمة الاساسية المميزة لهذا الزي .. فالخيطان ورسومها هنا تعكس التراث الثقافي للشعب الفلسطيني وتحيك قصص الذاكرة الفلسطينيّة كأنّها تروي حكاية الأرض وشعبها. ومن أقدم المطرزات في التاريخ، الثوب الفلسطيني الذي كان يرتديه الفلسطينيّيون قبل النكبة عام 1948 ولايزالون يلبسونه الى اليوم في مناسبات عدّة ما يعكس التمسّك بالهوية الوطنيّة الفلسطينيّة.
في التطريز إنعاش متواصل للتراث الفلسطيني
في العاصمة اللبنانيّة بيروت، تحديداً في منطقة الحمرا، مؤسسة أبصرت النور منذ أكثر من 50 عامًا، سميت "إنعاش"، وهي واحدة من أولى المؤسسات الاجتماعية التي تم إطلاقها في لبنان. هدفها الأساسي حفظ التراث الفلسطيني من خلال فن التطريز اليدوي التقليدي، فكانت اسماً على مسمى، "إنعاش" متواصل للتراث ولتاريخ فلسطين.
وفي حديث لـ "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" تقول مديرة قسم التسويق والتجارة في "إنعاش"، رولا العلمي: تأسست "إنعاش" عام 1969، على يد السيّدة هوغيت كالان، ابنة بشارة الخوري، أول رئيس جمهورية للبنان، مع عدة سيدات فلسطينيات ولبنانيات، وكان الهدف الأساسي إبقاء التراث الفلسطيني على قيد الحياة و توفير فرص عمل للنساء في المخيّمات الفلسطينية،" مشيرة الى أن "إنعاش" قامت بتدريب أكثر من 2000 امرأة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في جميع أنحاء لبنان وتوفر حاليًا فرص عمل لـ 429 من هؤلاء النساء في ستة مخيمات.
وأكملت "هناك عبارة كانت ترددها السيّدة هوغيت دائما في ذلك الوقت ولازالت عالقة في أذهان فريق "إنعاش" الى اليوم وهي "طوّروا التطريز واستعملوه وعندما تتحرر فلسطين يعود كل التراث الفلسطيني الذي حضّر هنا إليها."
في البداية، اقتصرت أعمال "إنعاش" على تصميم وصنع الأثواب الفلسطينيّة التقليدية والتطريز على المخدات. تقول رولا: "بدأ عمل "إنعاش" في تطريز التصاميم التقليدية القديمة المعروفة والخاصة بكل قرية أو مدينة في فلسطين مثل مطرزات قرية بيت دجن ومدينة القدس ورام الله والخليل، وكانت الألوان مقتصرة على اللون الأحمر ودرجاته."
تحديث التراث ضرورة ليبقى حاضراً
مع مرور السنوات تطورت تصاميم "إنعاش" في المطرزات والأثواب التراثيّة ي هذا السياق توضح رولا: "أخذت عملية التطوير سنوات تضمّنت الكثير من التجارب على الكنفة ولازالت هذه القطع لدينا اليوم، وهي أرشيف تراثي للمؤسسة" مضيفة أنه في بداية مسيرة "إنعاش" كان هناك لجنة أساسيّة تعنى بالتصميم ورسم التطريز مؤلفة من ثلاث سيّدات؛ السيّدة ملك عبد الرحيم والسيّدة سيما غندور والسيّدة سيرين الحسيني، اللواتي كنّ يملكن ذوقا فنيّا عاليا ومع الوقت عملن على تطوير التطريز وإدخاله الى عالم الأزياء الحديثة، فقد رأين أن التحديث هو جزء مهم في عملية الحفاظ على التراث مع تسارع الزمن."
محاولة دمج التطريز التقليدي مع الموضة المعاصرة بدأ من الوسائد، حيث تعاونت "إنعاش" مع مصممين محليين وعالميين ليصنعوا وسائد مخدات بتصاميم جديدة تحتوي على التطريز الفلسطيني ولكن بأسلوبهم الخاص. ثم انتقل التحديث الى الملابس المعاصرة حيث أضيفت الى المجموعة العبايات والمعاطف المطرّزة المستوحاة من الثوب الفلسطيني ولكن بأسلوب وتصميم جديد يختلف عن الثوب التقليدي.
وأضافت رولا "مع الوقت، بدأنا في "إنعاش" نستخدم التطريز بطريقة مختلفة وجديدة لنجعله عمليّا أكثر، فنطرز على شالات النجف العراقيّة الشفافة والمحفظات النسائية العادية والمحفظات الخاصة بالمناسبات وأدخلنا التطريز أيضا على القبعات وإكسسوارات الديكور المنزلي وحاليا أنتجنا الكمّامة المطرّزة."
يرى فريق "إنعاش" في تحديث التراث ضرورة لينتشر التراث الفلسطيني في دول العالم وليبقى حاضرا في كل المناسبات وفي أي مكان وأي وقت ولا يقتصر وجوده فقط في المناسبات التراثية الوطنيّة، حيث إن مواكبة المطرّزات الفلسطينيّة للموضة والأزياء الحديثة يتيح الترويج للتراث الثقافي الفلسطيني في السوق العالمي المتنامي للسلع اليدوية التقليدية مما يجذب قاعدة أوسع من الزبائن ويزيد من نسبة مبيعات "إنعاش"."
خيوط سرد للحكاية الفلسطينيّة
تاريخ التطريز الفلسطيني يعود إلى عهد الكنعانيين منذ آلاف السنين. التطريز، تراث بصري متوارث مستمر من جيل الى جيل. هو جزء أساسي من الهوية الوطنية الفلسطينيّة ورمز للبقاء، كأن الثوب الفلسطيني والمطرّزات تجسّد عبارة الشاعر الفلسطيني، محمود درويش، الذي قال: "ولنا الماضي هنا، ولنا صوت الحياة الأول، ولنا الحاضر، والحاضر والمستقبل".
فالتطريز امتداد لجذور الفلسطينيين في أرضهم، وهو موروث شعبي يحمي التراث الثقافي الفلسطيني، ويبقي الذاكرة الفلسطينيّة متيقظة. وفي هذا السياق، قالت رولا: "وجدت السيدات الفلسطينيّات، اللواتي يعملن مع "إنعاش"، في التطريز طريقة يعيشن فلسطين من خلالها."
الثوب الفلسطيني التقليدي رمز الإنتماء للوطن ووثيقة تاريخية لوجود الشعب الفلسطيني في كل قرية ومدينة فلسطينيّة. فخيطان تطريزاته تأخذ دور خيوط السرد للرواية الفلسطينيّة. كل ثوب برسماته وألوانه يخبر حكاية القرية أو المدينة التي جاء منها.
أشارت رولا قائلة: "كل ثوب فلسطيني فيه رموز للمنطقة التي ترتديه نساؤها، فالمرأة الفلسطينيّة استوحت تطريزاتها من البيئة التى كانت موجودة فيها،"
وتابعت "مثلا ثوب مدينة يافا، طرّزته "إنعاش" منذ أكثر من ثلاثين عاما، كانت تلبسه العروس الفلسطينّية ليلة الحنّة أو يوم العرس، وهو مطرّز على الحرير الأبيض ونقشاته المطرّزة فيها شجر السرو وأزهار البرتقال المشهورة فيها يافا،"
وأكملت "وهناك ثوب الملك الذي كانت ترتديه العروس في مدينة بيت لحم وهو ثمين ونادر لأنه كان يدفن مع العروس عند موتها، وهناك أيضا الثوب البدوي الفلسطيني الذي كان طويلا جدا وذلك لتلفّه المرأة الفلسطينيّة البدوية وتحمل فيه طفلها"
كل نوع من الأثواب التقليدية كان بمثابة هوية للمرأة الفلسطينية. كان يروي حكاية المرأة التي كانت تلبسه ويعكس حالتها الإجتماعيّة، حيث قالت رولا: "الثوب المطرّز عادة باللون الأحمر يعاد تطريزه باللون الكحلي عندما تصبح المرأة أرملة وعندما تكون جاهزة للتتزوج مرّة ثانية يتم إدخال الألوان وأبرزها اللون الأحمر الى الثوب."
في استمرار التراث استمرارية لفلسطين
وجود الثوب الفلسطيني الى اليوم في معظم البيوت الفلسطينيّة داخل فلسطين أو في الشتات يمثّل الإرتباط الوثيق بين الفلسطينيين وأرضهم وتاريخهم وثقافتهم. وتحديث "إنعاش" للثوب والمطرزات الفلسطينيّة ودمج التطريز في الملابس العصرية خلق إستمرارية لهذا التراث العريق. تقول رولا: "التطريز الفلسطيني يربط بين الذاكرة الفلسطينية والحاضر الفلسطيني مما يعني استمرارية لفلسطين."
في التطريز أيضا مقاومة ضد الاحتلال الصهيوني للأرض ومحاولاته لطمس الهوية الفلسطينيّة وسرقت تراثها، تضيف رولا: "في قلب كل قطعة مطرّزة تصنعها "إنعاش"، في خيطانها وألوانها وزخارفها، يكمن تاريخ فلسطين" مركدة أن التمسّك بالثوب التراثي والتطريز الفلسطيني هو مقاومة من نوع آخر وتحد من خلال الفن للرواية الإسرائيليّة المزيفة التي تحاول تشويه تاريخ التراث الثقافي للشعب الفلسطيني."