"انت من وين ياحجْ؟ من صفوريّة. وانت؟.. أنا من ميعار وراجعين بإذن الله"، بضعُ كلماتٍ وحواراتٍ ودردشاتٍ تدور بين المشاركين في مسيرات العودة إلى القرى المهجّرة في كل عامٍ في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 بين الفلسطينيين أصحاب الأرض الذين هجّرتهم وحرمتهم عصابات الاحتلال من بيوتهم وبرتقالهم إلّا من حكاياتهم وقصصهم التي لن تكون نهاياتها إلّا بأنّ العودة قد آن أوانها.
يواظب الفلسطينيون في الداخل مع اقتراب ذكرى النكبة 15 مايو/ أيّار في كل عام على تنظيم مسيراتٍ يتحرّكون فيها باتجاه قريةٍ مهجرةٍ أبو بلدةٍ مسلوبةٍ إحياءً لهذه الذكرى، حيث كانت قرية هذا العام هي قرية ميعار المُهجّرة.
يؤكّد القائمون على هذه الفعاليات بأنّها مهمة إلى حدٍ لا يتخيّله أحد، في ظل واقع أنّ العقيدة الصهيونيّة تقوم على تهويد وأسرلة الفلسطينيين في الداخل المحتل وسلخهم عن هويتهم الوطنيّة وعزلهم عن جغرافيتهم، فتأتي هذه المسيرات للتعريف بأسماء القرى، وتفاصيل المجازر، ولشرح معاناة الهجرة ونقلها وتوريثها إلى كل الأجيال التي لم تعايش النكبة، حتى يموت الكبار ولا ينسى الصغار، أو على الأقل يرحل الآباء مستأمنين الأبناء على قضيةٍ وأرضٍ سُلبت بقوة السلاح.
"يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا"
يقول زياد عوايسة عضو الهيئة الإداريّة في جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ فكرة المسيرة المركزيّة السنويّة أنّها تُقام كل مرّة في بلدةٍ أو قريّةٍ مختلفة في ذكرى ما يسميه الاحتلال "يوم الاستقلال"، وذلك بهدف إيصال رسالة أوليّة بأنّ "يوم استقلالكم هو يوم نكبتنا"، ومن المهم جداً أنّ نقول هذا الكلام للاحتلال وللعالم في كل ذكرى للنكبة، و أيضاً بهدف نقل الرسالة إلى الأجيال الفلسطينيّة التي ولدت بعد العام 1948 وإرجاعهم إلى القرى التي هُجّر منها أجدادهم ولو بشكلٍ رمزي.
أربعة أجيال تشارك في مسيرة التعريف بالقرى المسلوبة من قبل الاحتلال
هذه الجمعية هي القائمة على تنظيم المسيرة منذ 25 عاماً، فيما يرى عوايسة أنّ الفعالية تتخطّى رمزيّتها، لأنها تقام على الأراضي المهجّرة بتم تعريف الأطفال والشباب على هذه القرى وأسمائها ومن كان يسكن فيها وقصص الناس وتاريخها بالكامل، وهذا يأتي في ظل أنّ الحركة الصهيونيّة راهنت على مدار سنواتٍ طويلة على نسيان الفلسطينيين لقضية اللجوء وتهجير القرى وكأنّ شيئاً لم يكن، لكن بالعكس نُشاهد اليوم أربعة أجيال تُشارك في هذه المسيرة الضخمة، وهذا ما يريده المنظمون لهذه المسيرات، أن تتعرّف هذه الأجيال على تاريخها لتستمر في ذكر هذه الرواية في وجه الرواية الصهيونيّة الكاذبة التي تدّعي عدم وجود ناس في هذه المناطق قبل 1948، يضيف عوايسة بأنهم يحاولون أيضاً إنعاش هذه القرى والبلدات من خلال الأعمال الفنيّة والفلكلوريّة ليقولون للعالم أنّ شعبنا موجود هنا بثقافته وبفنه وبكل ذكرياته على هذه الأرض ويريد حقّه في العودة إلى الديار.
نُخاطب الوعي
الفعاليات لا تقتصر على المسيرة السنويّة في ذكرى النكبة، حيث يوضّح عوايسة أنّ الفعاليات تستمر في أوقاتٍ أخرى من العام من خلال تنظيم الفعاليات التوثيقيّة والزيارات إلى القرى وتوثيق شهادات ومعلومات، أمّا دلالة تنظيم المسيرة المركزيّة في يوم النكبة فهدفه الأساس مُخاطبة الوعي، وأن نقول للاحتلال بأنّنا منذ 74 عاماً لم ننسى ولن ننسى، فيما تُقابل كل هذه الفعاليات بعض المعيقات التي تحدّث عنها عويسات.
هناك قرى كاملة هدمها الاحتلال وأقام مكانها مستوطنات
أبرز الصعوبات إلى جانب الصعوبات التنظيميّة وكيفيّة تحديد أماكن القرى المنوي زيارتها خاصّة التي لم تعد موجودة بفعل الاحتلال وأقيم عليها مستوطنات يهوديّة، يذكر عوايسة الذي يسكن في الناصرة، أنّه لا يوجد في بعض القرى لجان محليّة تحمل اسم البلدة المهجّرة فنُحاول من إيجاد مجموعة من أهل البلد الأصليين والتعاون معهم وتأسيس لجنة محلية لتمثّل هذه البلدة، وهذه فرصة لتحفيز قرى وبلدات أخرى لإنشاء لجان محليّة لتمثيلها، وهذا إلى جانب أنّ الشرطة تفرض شروطاً تعجيزيّة تجاه زيارة بعض القرى والمناطق، بل يقولون لنا مستنكرين: "هذا يوم نحتفل نحن به لماذا تريدون تنظيم الفعاليات في هذا اليوم بالذات"، ولكن الحقيقة أنّ كل تجارب العودة لا تروق لهم وتنغّص عليهم لأنّ الحقيقة تقول أنّنا أصحاب الأرض الحقيقيين.
مسيرة عابرة للأحزاب
ويُشير عوايسة إلى أنّ هناك صعوبات في بعض الأحيان في الحصول على تراخيص لتنظيم المسيرة، ولكن في كل مرّة نقول لهم "شئتم أم أبيتم نحن ماضون في مسيرة العودة"، حيث تعتبر هذه المسيرة مُوحِدة ، ومُؤخراً نرى مشاركة مكثّفة ومن أجيالٍ عدّة، من الكِبار والصِغار، والشباب والشيوخ، وهذا ما يميّز هذه المسيرة التي تعد عابرةً للأحزاب، وتعبّر عن الانتماء الحقيقي للقضيّة الفلسطينيّة والانتماء إليها وسط انتشار شعور بين المشاركين بحتمية العودة والانتصار والمصير الواحد، بحسب ما يقول.
السماء هي حدودونا ويهمنا استمرار هذه المسيرات
وحول آليات تطوير تجارب العودة في الداخل المحتل، قال عوايسة المنحدر من مدينة صفورية وهي مدينة فلسطينية في قضاء الناصرة: في الماضي كان هناك محاولات لعمل حق عودة حقيقي، إذ حاولت مجموعات شبابيّة هنا في الداخل تجسيد العودة، ومستقبلاً نؤكّد أنّ السماء هي حدودنا، وما يهمنا بالدرجة الأولى هو الحفاظ على حيويّة هذه المسيرات والفعاليات، وأيضاً سنُحاول تشكيل لجان محلية أكثر لتعم كل القرى والبلدات المهجّرة لتصبح هذه اللجان هي من تنظّم مسيرة خاصّة بها وعلى مدار العام، هذا إلى جانب المسيرة المركزيّة، أي تكون المسيرات والفعاليات أوسع بفكرتها وأهميتها وموزّعة كل شهور السنة ليكون تأثيرنا أكبر ونبتعد عن الموسميّة.
جميعنا يُمسك بذات الجمرة
وختم عوايسة حديثه لموقعنا بالقول: أساليب النضال في فلسطين تختلف من مكانٍ إلى آخر، فمثلاً أسلوب قطاع غزّة يختلف عن الضفة، وأسلوب الضفة يختلف عن الداخل بحكم أنّ لنا خصوصيّة، وأسلوب اللاجئين الفلسطينيين في الشتات يختلف عن الموجودين داخل الوطن، ولكن أؤكّد أنّ جميعنا يُمسك بذات الجمرة وهناك شيء وحيد يوحّدنا وهو حقنا الشرعي جداً جداً في العودة.
الذي يُشارك في مسيرات العودة بالتأكيد شعوره يكون مختلفاً عن المُراقب من بعيد، إذ يشعر وأنّ هذه المحاولات للعودة إلى البلاد هي بمثابة تجربة أو "بروفة" للعودة الحقيقيّة إلى الوطن في يوم الحريّة.
الناشط الحقوقي والمحامي مروان أبو فريح كانت له تجربة ومشاركة في هذه المسيرات، يؤكد أنّ المشاركة هذا العام في العودة إلى قرية ميعار المهجّرة كانت مفرحة ولافتة، إذ تسبّبت جائحة "كورونا" في إلغاء المسيرة على مدار العامين الماضيين، لكن العدد المُشارك هذا العام كان كبيراً جداً وشاهدنا عائلات كاملة من أطفال ونساء وكبار في السن، وهذا إنّ دلّ على شيء فيدل على أهمية المسيرة ورمزيتها التي هي بمثابة ثقافة للأجيال الجديدة، وتثبت للقاصي والداني بأنّ الكبار إذا ماتوا هاهم الأطفال يكملون المسير.
فشل محاولات طمس معالم التاريخ
يرى أبو فريح أنّ هذه المحاولات في طمس معالم التاريخ والهوية الفلسطينية فشلت أمام كل هذه الفعاليات التي تثبت أنّهم على المسار الصحيح من التاريخ، مذكراً أنّهم نظّموا مسيرة العودة عام 2016 للمرّة الأولى في النقب الفلسطيني المحتل، حيث كان الحضور ملفتاً جداً والملفت أكثر هو التنوّع وتغيير القرى، وتتعرّف الأجيال في كل عام على قريّة جديدة وبلدة جديدة وتاريخ وحقائق جديدة وهذا يرسّخ في الذاكرة عملياً كل ما حدث منذ تاريخ النكبة كي تحمل هذه الأجيال الهوية والتاريخ الذي لا يستطيع أحد أن يطمسه.
يُحاول الاحتلال دائماً فصل فلسطين الأم عن أراضي النقب، ويزعم أنّ النقب ليس جزءاً من فلسطين بل منطقة أخرى من حقه، لكن أبو فريح يؤكّد أنّ حضور الأجيال في كل هذه المسيرات إلى جانب المخاتير وكبار السن يبطل رواية الاحتلال الزائفة، وفي كل عام يكون هناك إشكاليات حتى في إصدار الترخيص لتنظيم الفعاليات الخاصّة بالعودة لأنّ الاحتلال لا يريد استمرارها، ولكن في نهاية المطاف ينجحون في تنظيم المسيرة والمشاركة فيها.
أحاديث المسيرة
الأحاديث بين المشاركين تكون شيقة للغاية، يُتابع أبو فريح: لا شك أن برنامج الفعالية السنويّة للعودة جميل جداً، يبدأ بمسيرة ربما تمتد على مسافة 2 كيلو متر كي نشعر في طعم العودة الحقيقيّة سيراً على الأقدام، نسير من باب القرية حتى مركزها بالإضافة إلى فعاليات وتنظيم معارض كتب وصور تاريخيّة ومحطّات للأطفال وقصص وحكايات، كما يكون هناك خطابات لأهالي القرية ذاتها ويقصون لنا القصص الخاصة بالنكبة كي نستذكر الأحداث سوياً، ويكون هناك توزيع كتب عن هذه القرية المهجّرة تحتوي على تاريخها وتاريخ سكّانها وحكاياتهم الموثّقة منذ ما قبل النكبة، وهذه برأيي روايات هامة جداً، وما يحدث هو محاولة لاستذكار الجريمة التي ألمت بنا جميعاً.
ونختم بما قاله الأديب محمد علي طه في كلمة أهالي "ميعار" خلال المسيرة السنويّة: أكاد أرى العودة ماثلة من هُنا من ميعار، لتعود إلى كل مكان. هذا الشعب اجترح يومين عظيمين مُوحِدين، يوم الأرض ويوم النكبة، رغم الاضطهاد والتمييز.