تقاتل تقاتل تقاتل تقاتل، أجيال من شعب فلسطين تقاتل الغزو الصهيوني منذ أكثر من 100 عام، مؤمنة بحقها وقدرتها على تحقيق الانتصار، ولكن لا أحد من هذه الأجيال طالب أو تمت مطالبته بتحديد موعد للنصر أو معركة فاصلة يتم فيها إلحاق أقسى الهزائم بالعدو، أو حتى الإشارة لنقطة زمانية أو مكانية أو ظرفية تعتبر نقطة الفصل في الدفاع عن وجود شعب فلسطين.
رصيد القوة المادية المسلحة لدى العدو هائل بالفعل، وكذلك قدرة شعبنا على الصمود وتطوير أدوات وبدائل نضاله، رغم أن الغزاة امتلكوا دوماً فارق القوة المادية والقدرة على تركيز جبروت هذه القوة ونيران آلة الحرب على أي نقطة اشتباك، ولكن ما اختاره ونجح فيه شعب فلسطين ورسم ملامح كفاحه، هو استنزاف هذه القوة وتشتيت قدرتها، وتوزيع عبء التصدي لنارها وقمعها على أكبر عدد ممكن من نقاط الاشتباك والفعل الفلسطيني.
واختطت الفصائل والقوى التي أفرزها شعب فلسطين لذاتها هذا الخط، عبر حشد وتنظيم طاقات أكبر كتلة ممكنة من الفلسطينيين لاستنزاف العدو في حرب الشعب طويلة الأمد، هذا ما اختاره شعب فلسطين وفقاً لما أملته المعطيات الموضوعية للصراع.
لم تختر إيديولوجيا معينة للفلسطينيين هذا الخيار، بل اختاره ظرف الصراع وتجاربهم وخبراتهم الطويلة في مواجهة الغزاة التي تراكمت عبر سيل طويل من التضحيات، من الدم، و ما راكمه شعب فلسطين بدمه ليس ملكاً لفصيل أو تيار أو تحالف سياسي مهما بلغ اتساعه ورصيد شرعيته النضالية.
خلال الأعوام القليلة الماضية تراكمت نزعة دعائية بُنيت على رصيد من الإنجازات التي حققتها المقاومة الفلسطينية والنضال الشعبي في مواجهة الاحتلال، قادت وبتأثير عوامل مختلفة لاستنزاف هذا الرصيد بالخطابة، التي كان أحد أشكالها تلك الإشارات لمعارك فاصلة وخطوط حمراء، ورفع لسقف التوقعات الجماهيري من خلال تعهدات غير منضبطة لمنطق معادلة قوى التحرر في مواجهة الغزاة المدعومين بترسانة القهر المسلح، فما يملكه عموم الشعب الفلسطيني في هذه المواجهة كما أبنائه الذين حملو السلاح دفاعاً عن وجوده وحقوقه، هو العمل على تكبيد العدو كل خسارة ممكنة، أياً كان الظرف أو الموضع أو الممارسة الاحتلالية.
وموضع الخطابة في ذلك هو توضيح لموقف المتحدث عما يجب فعله، وإسهامه في نقاش وجدل التحرر وأدواته كما إسهامه في فعله، وعلى اأمية شرعية الفعل الفدائي المتمثل بالمقاومة بالسلاح، ودفع أثمان باهظة في سبيل ذلك، فإن هذه الشرعية تتراكم بفعل المصداقية والجدية، وجدوى الطرح المقدم وفائدته للنضال الوطني مجتمعاً.
بكل موضوعية يمكن القول: إن ما تقدم من خطاب فصائلي وطني فيما يتعلق بمواجهة جرائم العدو المستمرة واليومية في القدس، قد ألحق ضرراً واضحاً بالحالة المعنوية للجماهير الفلسطينية، وذلك باعتباره – أي الخطاب - عاملاً أساسياً في حالة الإحباط وليس محض خطأ أو خلل نافر، بل جزء من سياق يتطور باتجاه تعظيم مكانة الدعاية وتحولها من خطاب يتمكن من حشد الناس للانخراط في أفعال وممارسات نضالية، إلى خطاب تعظيم للقوة، وإنابة تامة عن الفاعل الحقيقي وهو كل عموم الشعب الفلسطيني، الذي شكل وذخر وسلح هذه المقاومة وقدم أبناءه في صفوفها، ولا زالت شريحة واسعة من أبنائه تخوض الاشتباك اليومي بمختلف الأدوات مع قوات العدوان وأذرع قمعه.
إن مسؤولية مواجهة المحتل في فلسطين لا تنحصر في القدس، أو حول المقدسات الدينية، وإن كانت هذه إحدى المواجهات المهمة لتعطيل مساعي العدو في كسر إرادة النضال الفلسطيني، ولكن خوضها يتطلب إدراكاً لكونها معركة يومية تدور في كل شبر من القدس وكل موضع اشتباك من فلسطين، وكذلك أنها ليست الاشتباك الوحيد في فلسطين.
وإذ تكتسب القدس أو النقب أو غزة أو الجليل أو أي بقعة أخرى في فلسطين أهمية وأولوية مركزية في نظم مهمات النضال الفلسطيني في نقطة زمنية محددة، فإن ذلك لا يرتبط بمسعى العدوان فيها فحسب، ولكن وبالأساس بموارد النضال الفلسطيني فيها، أي استعداد وقدرة وظروف أهلها، وجاهزية منظومات فعلهم وشبكات نضالهم.
إن ما أطلقته منظومة دعاية الاحتلال من ذخيرة دعائية ضد معنويات الفلسطينيين، قد لقمته تلك النزعة الخطابية لإسكات وقمع النقاش الوطني النضالي حول أدوات وظروف الفعل، ومحاولات تغليب الدعاية والتمجيد على حقيقة الاشتباك، فمن تستهدفه منظومة القتل والتطهير العرقي الصهيونية ليس آلافاً من الفدائيين المسلحين الأكثر استعداداً للتضحية فحسب، بل الوجود الفلسطيني المادي والمعنوي على هذه الأرض، وواجب المواجهة والتصدي لذلك لا يمكن تحميله فقط على عاتق الفدائي المسلح المنظم الذي امتاز عن غيره باستعداد استثنائي للتضحية يستحق كل الإشادة كما الدعم، بيد أن هذا الدعم والاحتضان لا يتمثل في إخراس صوت النقد، أو ضرورة وواجب وضع نقاش البدائل والأدوات النضالية دوماً كهمّ أساسي لكل فلسطيني، كجزء من واجب لا يقتصر على النقاش والجدل، ويُنتظر منه دوماً أن يكون مبعثاً وحافزاً للفعل.
لم يخسر الشعب الفلسطيني معركته في القدس، ولم تسقط من عروبتها وهويتها وهوية أهلها ذرة من فلسطينيتها، وقد ربح شعب فلسطين في ساحة المواجهة بالقدس والنقب وجنين وغزة الكثير في مواجهة جديدة يحاول العدو فيها كسر إرادة النضال، ربح على مستوى الوعي المهدد بإدمان الدعاية، وعلى مستوى إعادة روحية النقد الوطني المسؤول والنقاش الضروري حول بدائل النضال، وكذلك حول دور الفعل الشعبي في إنتاج دفاعه المسلح وغير المسلح ضد العدوان وجرائم التهجير.
إن فعل شعب فلسطين المقاوم لا يقوم على مقدار ما يملك من قوة بقدر ما يقوم على ما يملك من إرادة للمواجهة، وهي إرادة تتشكل بفعل الاقتناع الحقيقي بهول قوة العدوان ودرجة إجرامها، فهذه القوة المسلحة القاهرة، وتصميمها الدائم على الترهيب والتدمير، هي حوافز تطلق الفعل النضالي الرافض للخضوع والعبودية، ولم ولن تكون يوماً كافية لإخضاع هذا الشعب بل لاستفزاز طاقة النضال فيه.