النعي والمواساة، لا تكفي، ولكنها أدنى الواجب تجاه شهداء شعبنا وذويهم، أولئك الفدائيين الذين ضحّوا بأعمارهم على طريق النضال دفاعاً عن حق هذا الشعب في الوجود والحرية والكرامة والأمل في الانتصار، وعن كل من بقي من رفاق دربهم قابضاً على سلاح النضال و شعلته، من قاتل ويقاتل هذا العدو الفاشي في كل يوم، مشهراً صمودَه ودمَه أمام الغارة والاغتيال وتكنولوجيا الموت وعالم حَكَمَ على كل مناضل بالإعدام سلفاً، وعن هذا الشعب العظيم بإرادته وصموده و تضحيته و تمسكه بالدفاع عن حقه في المقاومة حتى في أحلك اللحظات والظروف.
وفي هذه الأيام، نعم نحن في واحدة من أثقل محطات هذا الصراع على النفس والعقل، حيث يسعى العدوان لاغتيال أملنا بالحرية، أو حتى فرصتنا للقتال لأجل حريتنا، مستفيداً من هدرٍ مجنونٍ لما راكمه هذا الشعب بتضحياته ونضاله، فكلما جدد شعبنُا الأملَ ونهض للاشتباك متسلحاً به، تكالبت عواملُ حصاره و نكصت نخبُه نحو وهم فتاتٍ سياسي يُلقى لها.
ألقى شعبنا حبلَه لنخبه وقواه السياسية في أيار/مايو 2021، معلناً استعداداً شجاعاً لتوسيع الاشتباك مع عدوه، فانصرف عنه صناعُ سياسته لدوائرهم المعتادة، واستلبوا شعار وحدة الساحات لوهمٍ تُخاض باسمه "التفاهمات" كما المعارك والتهديدات، ظناً أن وحدة نضال هذا الشعب تأتي باتفاق مع هذا العدو الذي يسعى لتقطيع شعبنا.
غزة مخيم اللاجئين الكبير، وقلعة الصمود الباسلة، طُلبَ منها أن تخوض ألف ألف معركة فوق معركة الحصار والتجويع، دون إسناد حقيقي، لا على مستوى السياسة ولا على مستوى دعم صمود أناس أراد العدو تجويعَهم حدَّ الموت أو الاستسلام ولفظ المقاومة من قاموسهم للأبد، فذهبت قواه حتى المُقاوِمة منها إلى معانقة وهم خطير بأن الحصار سيرُفع أو يُخفف بتفاهمات مع العدو أو بجولة قتال أخرى... جولات من القتال فوق ركام الأرواح الصامدة في غزة والمتشبثة بكل فلسطين شعباً وهوية.
العمل لأجل وحدة الساحات يقتضي أولاً إدراك أن من يعيش في هذه الساحات هم بشر، قرروا الصمود والقتال والنضال، و راهنوا على كل شعبهم، واستعدادهم للموت في هذا السبيل وتقديمهم لكل مورد يملكونه وأغلاه وهي ارواحهم لتلك القوى التي حملت الشعار، ما يعني أنه يجب أن تستثمر هذه القوى هذا الاستعداد والموارد في تنظيم النضال وربطه بشعار جامع، ودعم صمود من يشتبك وتغطية ظهره، لا الإلقاء به في رهانات أكثر وصف مهذب لها لن يتوقف عند القول: إنها غبية وانتهازية وقصيرة النظر واستعراضية، يجري فيها تغليب الخطابة على العمل الجاد والحقيقي الذي يدين لهذا الشعب بحقه في السيادة على سياسته، وتغليب إرادته على ما دونها.
والحال هذه، يحقّ لنا التساؤل عما تظنه قوى العمل الوطني أو المستوى السياسي الرسمي حول جماهير شعبنا، بأن تترك حشوداً دون أي جهد تنظيمي ثم يصدر النداء السامي ليأمرها بالنزول للشارع وخوض الاشتباك وتحمل ويلاته!
لقد قرر مناضلو غزة والضفة والداخل المحتل أن يخوضوا الاشتباك مع عدوهم موحدين وتحت شعار وعنوان كامل الشعب وكامل الأرض وكامل الحق وكامل الهوية، وحظيت هذه الإرادة الشُجاعة بكامل الدعم من جماهير شعبنا في مخيمات اللجوء والمنافي والشتات البعيد والقريب، فاختارت نخبُ السياسة الفلسطينية في الشتات أن تتسلط على مناضلِ الخندق الأول في غزة والنقب والقدس وترسل له برامج سياسية على مقاس مُحاوريها من حكام أو دول مضيفة لها ساهمت على الدوام في تكريس مأساة الشعب الفلسطيني، فيما ذهبت السلطةُ الرسمية الفلسطينية لمزيد من الاستجداء للإدارة الأمريكية و لهندسة عملية توريث لسلطة لا تملك من أمرها شيئا وتشتري بقاءها بحراسة الاحتلال وتجميل صورته، فيما ذهبت الفصائل لخطابة لا تنتهي حول المعركة والتحول الاستراتيجي ومعادلات الردع، وجولات وبطولات من ورق قوامها تهديد ووعيد.
المشكلة ليس أن تعبر كتلةٌ ما عن رأيها في البرنامج السياسي الواجب اتباعه، ولكن أن تغيب عن البرنامج النضالي وأن تتهربَ من العمل المُنظّم لمساحات تصدير الخطابة ومقايضة تضامن أهلنا في الشتات مع أهلنا في الداخل بمواقع ومنابر، كما لو كانت صانعاً لنضال شعبنا في الشتات أو موقفه من دمه وقضيته.
وليس هناك معضلة في تهديد المناضل لعدوه، مُستنداً للإيمان الراسخ بكفاح شعبه وعدالة قضيته وأمله بانتصارها ورفضه للاستسلام، ولكنّ تركَ مهمات تنظيم الذات والإصغاء لاحتياجات المناضلين في ميادين الفعل والاشتباك، وإلقاء الأوامرِ للجماهير بالاشتباك، هو من يتسبب في العجز عن المساهمة الفاعلة في بناء وتنظيم شبكة نضال، أو إيجاد أدوات لتغليب إرادة هذا الشعب على هواه الخطابي.
من يفعل هذا، لا يستحق قيادة هذا الشعب، ولا يمكنه قيادته في معركة بهذه الضراوة، فالقيادة ليست إلقاء الأوامر، ولكن إدارة عمليات الإسناد والبناء والدعم لكل خلية نضالية وبؤرة اشتباك وصمود، واستحضار إرادة كل هذه الجموع المناضلة واحتياجاتها ومصائرها وتضحياتها عند كل قرار ومقاربة ومحطة وحدث.
مهما قال الخطباء، فقد خسرنا معركة، وبشكل قاسي ومرير، وبالتأكيد لم نخسر الصراع أو إرادةَ القتال فلقد حرسها شعبنا رغم كوارث إدارة المعركة من كل طرف ذي قدرة وقرار وصوت في المعادلة الفلسطينية.
والخسارة هنا ليس أن يقتلنا العدو فحسب، فلطالما أراد هذا العدو قتلنا وإبادتنا، ولكن أن نسهلَ مهمتَه، وأن نفرّطَ في وحدة نضالنا، وأن نختلق ونبرر الأكاذيب حول معادلات الردع، معادلاتٍ يرى فريق أنها ردعت العدوّ وأثارت ذعره، لدرجة أن يُعمى هذا الفريق عن حشد العدو قواه لاغتيال ثُلة من خيرة مناضلي شعبنا وارتكاب مجزرة وعدوان جديد، ومعادلاتٍ أراد البعضُ أن يفرض علينا الاستسلامَ بموجب قراءته لها، فهوّل على شعبنا بقدرة العدو على التدمير وسعيه لارتكاب جرائم جديدة في غزة وغيرها، بل وذهب للدفاع عن النكوص بدعوى الحفاظ على "مكتسبات" قاصداً ذلك الفتات التركيعي الذي يلقيه العدو من كُوات مراقبة آثار الحصار وتسديد النار على شعبنا في غزة المحاصرة.
رغم الدم والهدر، ربح شعبنا فرصةً ليتلمس دربَه بجديةٍ أكبر، وينبذَ كلَّ تلك المسارات والسياقات التي من شأنها تدميرُ أيّ مسعى تحرري، وأن تلتفتَ القوى الجادة في النضال الوطني الفلسطيني لواجباتها ولقيمة ما يقدمُه أبناءُ هذا الشعب من عطاء في صفوفها أو في جموع غاضبة فشلت في خلقِ مساحةٍ تنظيمية لها او إسناد فعلها أو حتى إتاحة المجالِ لصوتها وإرادتِها وقدرتِها على التنظيم والنضال والبناء الوطني.
إن غلاظة القول في هذا النص ليست كفراً بالنضال وأدواته وبناه حتى تلك التقليدية منها والتي طالها هذا النقد، وليس إلا استجابة لفداحة الهدر والتقصير والتطاول على إرادة هذا الشعب وحقه، فقرار شعبنا الذي يجب أن ينفذ هو وحدة النضال كأداة لكسر الحصار عن بقاع ونقاط الصمود والاشتباك، والشراكة والتضامن الوطني كمسار لبناء شبكة النضال والإسناد، والمسؤولية والواجب كعنوان لعلاقة الفرد والفصيل والمسؤول بقضيته وشعبه.