لم يبتعد المركب المتهالك كثيراً عن نقطة انطلاقه من السواحل الشمالية للبنان، قبالة طرطوس السورية، داهمته العاصفة لتغرقه بمن فيه.
عشرات الشهداء هم ضحية الإهمال والتقصير والتواطؤ والتآمر، من جهات رسمية فلسطينية ولبنانية وأممية وغيرها، تجاهلت عشرات التحذيرات حول الغرق المحتوم لهذه القوارب المتهالكة، فمنذ شهور وعبر هذه الصفحات تحديداً وغيرها أُطلقت التحذيرات والمناشدات واحدة تلو الأخرى لوقف هذا العبث القاتل بمصير اللاجئين، ولكن المراكب واصلت الانطلاق من شواطئ محددة في لبنان وخاضعة لمراقبة كثيفة. وفي المخيمات الفلسطينية التي تخضع فيها أنفاسُ الناس لرقابة ألف جهاز أمني، وتحضر فيها البنى الفصائلية والرسمية الفلسطينية، تنشط شبكاتُ التهريب التي تساوم الناس على فرص النجاة من جحيم يعيشونه في مخيماتهم، بعرض أوهام اللجوء الأوروبي أمامهم.. كذبة وخدعة سوقتها شبكات التهريب حول إمكانية إيصال اللاجئين الى الشواطئ الاوروبية بهذه القوارب الخارجة عن الخدمة.
الحقيقة أن الرحلة تقوم على تكديس المهرب لأكبر عدد ممكن من الضحايا الذين استدرج أحلامهم في الخلاص، في قارب متهالك وغير صالح للإبحار، اشتراه خصيصاً لرحلة واحدة لا يراهن على استعادته بعدها.
حشو المهاجرين في القارب دون طعام أو حتى دون وقود كافي لإكمال الرحلة ودون أدوات ملاحية صالحة للتوجيه، هو طريق موت مؤكد نجت منها بعض المراكب بمعجزات في فصل الصيف، ليقع اللاجئون فيها في أسر خفر السواحل لبعض البلدان التي تعطلت مراكبهم قبالة شواطئها، ولكن مع قدوم الخريف والشتاء بات المصير المؤكد هو الموت.
من يجمع المال من اللاجئين في المخيمات ويقدم لهم الوعودَ بإيصالهم إلى أوروبا بحراً هو مجرم مخادع، يدرك جيداً أنه يريد الحصول على مالهم وإلقائهم في البحر دون أي فرصة للنجاة، والقوى الرسمية الفلسطينية التي تركت هذا الطريق يقتادُ اللاجئين أمام أعينها لقوارب الموت شاركته الجريمة بالتواطؤ والتقصير، و الحكومة اللبنانية والقوى اللبنانية المهيمنة في لبنان حين كانت تترك هذه المراكب تبحر من مرافئ رسمية أو شواطئ تحت الرقابة الكثيفة لأمنها كانت تقدم سهمها في مجزرة الترحيل والتهجير ذات النهاية المحتومة.
النداء الآن، والواجب تجاه أرواح ضحايا المجزرة المستمرة، وقف إبحار هذه القوارب فوراً، وأن تتحرك القوى الشعبية والمؤسسات والأهالي والفصائل اليوم والساعة لمنع مغادرة أبناء شعبنا للالتحاق بهذه القوارب، وأن تبادر القوى الفلسطينية أولاً لوقف شبكات التهجير في المخيمات، وإبلاغ السلطات اللبنانية عن المراكب والمجموعات التي تنوي عصابات الاتجار بدم اللاجئين تحريكَها من الشواطئ والمرافئ اللبنانية، واجب كل من يحمل مسمى قيادي فلسطيني في لبنان أو فلسطين أن يبادر للاتصال بالسلطات اللبنانية برسالة واحدة واضحة لوقف هذه المجزرة.
من المفهوم رغبة الناس في مغادرة الموت جوعاً وفقراً وبؤساً، والبحث عن مصير مختلف بعيد عن التمييز والإجحاف والتهميش والانتهاكات والإذلال، ولكننا هنا ومنذ شهور نتحدث عن موت محتوم، يُساق إليه اللاجئون دون فرصة حقيقية بالنجاة، لا نتحدث هنا فقط عن الرفض السياسي والإنساني لمنطق التهجير، أو ضرورة التمسك بحق العودة للوطن فلسطين، ولكن بالأساس عن جريمة مستمرة تلقي الناس لموت سيزداد ضحاياه يومياً.
آلاف غادروا شواطئ لبنان بحثاً عن هجرة، ولم يصل الى وجهته منهم سوى قلة قليلة، فيما تناهشت بقيتهم السجون ومعسكرات الترحيل وأسماك البحار.
صنعة الموت هذه لم تتوقف ولم تتراجع بل تستمر رغم التحذيرات من هذا الخطر المحدق، وتصمت السلطاتُ الرسميةُ المعنية فلسطينياً ولبنانياً، وتلتزم الصمت وترفض حتى مجرد إجراء مقابلة صحفية للإجابة على أسئلة حول مسؤوليتها عن هذه الكارثة.
إن واجب وقف انطلاق قوارب الموت الآن والساعة ولا نقول اليوم أو غداً، لا يعفي من ضرورة محاسبة كل متورط في الجريمة طيلة الفترة الماضية، وفضح كل طرف شارك في صناعة هذا الموت عبر صناعة ظروف قاتلة جوعاً وطاردة للاجئين في لبنان وهو واجبنا مهما كانت الموارد المتاحة شحيحة.
وإذ سعينا في بوابة اللاجئين الفلسطينيين طيلة الشهور الماضية في جهد لإجراء تحقيق جدي في هذا المسار المدمر، فإننا نؤمن اليوم أن الأولوية أولاً هي وقف النزيف ووقف الموت، وأن بوسع مجتمعنا وكل مؤمن بقيمة الحياة حماية أرواح الفلسطينيين والسوريين واللبنانين الذين وقعوا ضحية لهذا المسار الذي سلمتهم له ظروف حياة تخلو من كل معنى للحياة.. بوسعنا أن نوقف هذا الموت.