من المؤكد وبما لا يقبل الشّك أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "اونروا"، قد مارست ولا زالت إخلالاً خطيراً بواجباتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين، وأسهمت بتقليص خدماتها الأساسية الضرورية للحياة البشرية في خلق تدهور إضافي حاد في ظروف عيش اللاجئين الفلسطينيين في معظم المخيمات، وبشكل كبير في انهيار قطاعات أساسية مثل الصحة والتعليم على الأقل، لكن المؤكد بالقدر نفسه وربما أكثر أنه لا يوجد فلسطيني في بقاع اللجوء داخل فلسطين أو خارجها ينتظر من وكالة "أونروا" استعادة حقوقه الفردية أو الوطنية.
فاليوم لم يعد أيُّ لاجئ فلسطيني مستعداً للتحلي بالسذاجة لدرجة التعامي أو تبرير تقاعس وغياب القوى والأطراف الفلسطينية فيما يتعلق بقضاياه، ولا نضيف جديداً هنا إذ نقول: إن "أونروا" لن تحرر فلسطين، لا تنوي ذلك، وأيضاً لا تنوي مساعدة الفلسطينيين في ذلك أو حتى مساعدتهم لتحسين شروط حياتهم وصمودهم من تلقاء ذاتها، وأن سياساتها كما غيرها من المؤسسات الدولية ما هي إلا ترجمة لتوازن الإرادات في المجتمع الدولي، وتوازن قدرة التأثير وإرادة التأثير والضغط بين الفلسطينيين والمنظومة الصهيونية.
فحين تعمل شبكات التهريب داخل المخيمات على جمع أبناء المخيمات لحشرهم في مراكب لا تصلح إلا للغرق ومعها حمولتها، ولا تقوم الجهاتُ الفلسطينيةُ الرسميةُ أو الفصائلية بشيء يذكر، لن يلومَ الفلسطينيُ "أونروا" وحدَها على مصير أبنائه.
صناعةُ ظرف التهجير شيء والاستعماء الرسمي عن عملية تحويل التهجير لمجزرة إبادة وتخلص من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان شيء آخر... اقتحامُ الاحتلال للمخيمات في الضفة جريمةٌ من فعل الاحتلال، ولكن اعتقالَ السلطة لمن يواجه المحتل وتَركَ المخيم مستباحاً أمام المحتل هو جريمة أخرى، كما أن ممارسةَ سياسات التهميش والإفقار تجاه أهله هو شراكةٌ مع سياسة الاحتلال نلومُ وكالة "أونروا" ونحتجُ عليها حين ترتكبها.
أيضاً، المجاملةُ والمداهنة المستمرة رسمياً للسياسات الحكومية اللبنانية أو العربية بالمجمل وغيرها ضد اللاجئين الفلسطينيين أيضاً لا نلوم عليه وكالة "أونروا"، ولكن من يمارسها هو الجهات الرسمية الفلسطينية المسؤولة عن تمثيل الفلسطينيين بكافة مستوياتها والدفاع عن حقوقهم، فمنظمة التحرير وسفارة السلطة والفصائل داخل وخارج المنظمة هي مسؤولة بشكل مباشر عن أفعال قامت بها هذه الجهات، وهذا التقصير يختلف عن مجرد أفعال ضرورية قصّرت عن القيام بها مثل مئات الإجراءات الأخرى الواجبة.
السباق على تمثيل أو إدعاء تمثيل عموم الفلسطينيين لم يحمل في رؤية المتسابقين سلةً للواجبات، فقط جائزة سياسية واستحقاق رغبت الأطرافُ الفلسطينية المختلفةُ بنيله، دون ممارسة الحد الأدنى من الالتزام تجاه قضايا أساسية، وهنا المقصود ليس تعديل وضع أهل المخيمات من الفقر الى الثراء، ولكن بالحد الأدنى إظهار الجدية والمسؤولية والاستعداد للقيام بالواجب حين يتعلق الأمر بالحياة والموت والمصير والقضية الوطنية.
يموتُ اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات بفعل الصعقات الكهربائية، وغياب منظومة الرعاية الطبية، ورصاص المنفلتين أمنياً، وعمليات التجويع والإفقار التي تقتل الأطفال والكبار بسوء التغذية وسلسلة طويلة من أمراض الفقر، ويَلقى هؤلاء في دروب التهجير صنوف الموت والعذاب، ويتطاول كلُّ ذراع قمع لنظام عربي أو أجنبي بغيضٍ عليهم وينال منهم بكل أذى يستطيعه أو يتخيله، دون تدخل من الفاعل السياسي الفلسطيني، وكأن وجودَه السياسي لا يرتبط بهؤلاء وحقوقهم وخدمتهم، وكأنه قانون طبيعي، أن ينتظر السياسيُ الفلسطيني خدمةَ الفلسطينيين لوجوده وزعامته واستمراره وتوسيع نفوذه، دون أن يجدَ نفسه مديناً لهم بشيء.
كرَّست السنواتُ الأخيرة صورةً نمطية للمسؤول والقائد والفصيل، فسيارة المسؤول وكرسيه ومرافقوه ومسدساتهم انعكاسٌ لحضور الفعل في مجتمع المخيم واللاجئين، والشعار والكليشة الجاهزة للخطاب أقصى ما يمكن أن يلمسه اللاجئ من منظومة العمل الفصائلي والرسمي الفلسطيني في مواجهة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه، سواء سببها مآلات الانهيار الاقتصادي في لبنان أو تراجع وتقليصات خدمات "أونروا".
رغم وقع المجزرة في البحر، واستمرار مجازر العيش والظروف المميتة في مجتمعات اللاجئين بلبنان، وما سبقها من تدمير وتفكيك الوجود الفلسطيني في سوريا، لا يزال يحضرُ الشعارُ والخطابُ ويغيبُ برنامجُ العمل لتعزيز صمود اللاجئين، وتحسين شروط وجودهم ولو بالحد الأدنى.
خلال سنوات أُطلق عبر صفحات هذا الموقع النداء تلو النداء لإطلاق خطة إنقاذ وطنية لدعم مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وجرى رصد وتقدير مسارات تأثير الأزمة اللبنانية عليهم في ظل تراجع وتقليصات خدمات "أونروا"، دون أي استجابة من المستوى الرسمي الفلسطيني والفصائلي.
الهروب تجاه تحميل "أونروا" مسؤوليات أوضاع اللاجئين وتدهورها لا يعفي الكلّ الفلسطيني من فصائل ومؤسسات وطرفي سلطة برام الله وغزة المستأثرين بموارد الشعب الفلسطيني من تحمل مسؤولياته، فهذا التهرب الوقح من المسؤولية ومن العقد الجمعي الذي أسس فيه اللاجئون الفلسطينيون فصائل وقوى ومؤسسات لخدمة وجودهم ونضالهم، لا يمكن أن يستمر، لأن استمرارَه يعني استمرارَ مسارِ تفكيك الوجود والحقوق لجموع الشعب الفلسطيني وفي مقدمتهم لاجئوه الفئةُ الأكثرُ هشاشة وضعفاً.
هذا الانقلاب على إرادة الشعب الفلسطيني يجب أن لا يستمر.. هذه المعادلةُ المختلةُ تنتجُ الثروةَ والنفوذَ في جانب وتنتجُ الموتَ وتصفيةَ الوجود في جانب آخر.
من العار أن تستمر فهل هناك من هو مستعد للنزول إلى خندق شعبه، والالتحام بمصيره ودعم صموده في المخيمات، بعيداً عن حفلات المصالحات والمحاصاصات على دم وحقوق شعبنا!