منذ 22 كانون الثاني / يناير 2023 شرع موظفو وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في الضفة الغربية في إضراب دعا له "اتحاد العاملين العرب الوكالة"، ورغم قبول الاتحاد بتعليق الإضراب كاستجابة لوساطات حملت ضمانات بتخلي "أونروا" عن تعنتها تجاه مطالبهم، إلا أن الإضراب سرعان ما تم استئنافه كنتاج لاستمرار هذا التعنت.
لا نقف أمام "نزاع عمل" أو حراك نقابي تقليدي، فرغم أن الإضراب حمل مطالب للعاملين بشأن حقوقهم الوظيفية التي تواصل إدارة الوكالة الانقضاض عليها وتقليصها في الأعوام الأخيرة، غير أنه لم يكن معزولاً عن خلفيات أعمق تتعلق بسياسات إدارة الوكالة، فالتقليصات التي تسلب حقوق الموظفين الفلسطينيين، هي جزء من تقليص شامل للخدمات المقدمة للاجئين تنفذه "أونروا" منذ سنوات وطاول قطاعات الصحة والتعليم والمساعدات المقدمة للاجئين، أي أننا أمام مثال آخر على تحركات الفلسطينيين المتصاعدة ضد سياسة التقليصات التي تمضي قدماً في تفكيك شبكة خدمات الوكالة الدولية، وتسير بشكل متسارع نحو تحلل "أونروا" من معظم التزاماتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين.
تعامل إدارة "أونروا" مع الإضراب يُضاف إلى جملة سياساتها العدائية تجاه موظفيها ومواقفها السلبية المتزايدة فيما يتعلق بحقوق اللاجئين الفلسطينيين، فلم يقتصر موقف الإدارة على التعنت والتمسك برفض تلبية مطالب الاتحاد، بل سارعت الوكالة لإجراءات تصعيدية بحق قيادات الإضراب، كما نظمت حملة إعلامية سعت لابتزاز اللاجئين الفلسطينيين واستعدائهم على الموظفين الذين طالبوا بحقوقهم.
ما الذي يقود موظفي وكالة "أونروا" للإضراب؟
خلال الأعوام الماضية لجأت وكالة "أونروا" إلى تقليص مستمر في عدد موظفيها الفلسطينيين في مختلف مناطق عملها، كما قامت بتسريح أعداد من الموظفين والمتعاقدين في حالات عدة، إلى جانب عزوفها المستمر عن إجراء تعيينات جديدة، وهو ما وضع أعباء هائلة ومتزايدة على عاتق الموظفين، فقد رفع المضربون شعارات ومطالب تتعلق بحقوقهم وحقوق اللاجئين الذين يقدمون لهم الخدمات، فإلى جانب احتجاجهم على التقليصات المستمرة، يتعلق هذا الإضراب بدفاع الموظفين عن حقهم في العمل النقابي، والذي صار مهدداً بفعل إجراءات "أونروا" التعسفية بحق قيادة الاتحاد.
في مطالبهم أشار المضربون إلى إخلال إدارة "أونروا" بما تم الاتفاق عليه سابقاً بشأن ملئ الشواغر الوظيفية المتزايدة، وكذلك رفضهم لزيادة نصيب المعلمين من الحصص التدريسية التي تنوي "أونروا" رفعها من 25 إلى 27 حصة أسبوعياً جراء نيتها عدم تعيين بدائل عن 300 معلم سيغادرون قطاع التعليم قريباً.
الوضع في قطاع الصحة أيضاً موضع لاحتجاج الموظفين حيث أن 21% من موظفي قطاع الصحة هم على بند البطالة والعقود المؤقتة بما يقوّض قدرة هذا القطاع على تقديم خدمات لائقة للاجئين، علماً بأن لوائح "أونروا" تنص على ضرورة عدم تجاوز نسبة العاملين على بند البطالة لـ ٥٪ من إجمالي الموظفين.
وعلى مستوى الحقوق الوظيفية المباشرة لموظفيها المعينين بالفعل، رفضت وكالة "أونروا" إجراء أي زيادة على رواتبهم رغم الغلاء المتزايد في مستوى المعيشة في معظم مناطق عمل الوكالة، وهو ما وضع ضغوطاً اقتصادية واجتماعية متزايدة على هؤلاء الموظفين.
وإذا كان استئناف الإضراب يجري حالياً على مستوى موظفي "أونروا" في الضفة الغربية، فإن بدايته شملت ايضاً إقليم غزة، الذي خاض الموظفون فيه إضراباً جزئياً، كما أن حالات إضراب واحتجاج مماثلة تكررت خلال الشهور الأخيرة في معظم ساحات عمل الوكالة، وقد شهد شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 إضرابات جزئية واحتجاجات نفذها العاملون الفلسطينيون في "أونروا" احتجاجاً على سياسات التقليص المماثلة والانتهاك المستمر لحقوق الموظفين.
في مناطق عمل وكالة "أونروا" المختلفة، التي يعاني فيها الموظفون من رفض مطالبهم، وتحسين رواتبهم، هناك سياسة ثابتة تنتهجها إدارة الوكالة في رمي عبء التقليصات على كاهل اللاجئين والموظفين الفلسطينيين، وتجنيب موظفيها الدوليين لهذه الأعباء بل واحتفاظهم برواتب أعلى بنسبة كبيرة وموازنات إدارية تلتهم جزءاً كبيراً من ميزانيةٍ يُفترضُ أن تُكرّس بشكل أساسي لدعم اللاجئين والعاملين على خدمتهم في تجمعاتهم وأماكن وجودهم.
أونروا تواجه الاضراب بالابتزاز والترهيب
قابلت وكالة "أونروا" احتجاج موظفيها بإجراءات تعسفية شملت إيقاف بعض الموظفين ومن بينهم رئيس اتحاد العاملين في الضفة، وتسجيل خصومات مالية وعقوبات بحق موظفين آخرين، إلى جانب حملة للتحريض ضد المضربين، حاولت من خلالها تحميلهم مسؤولية إخفاقها في حشد التمويل اللازم، ونقص الخدمات المقدمة للاجئين الفلسطينيين، حيث ادعت "أونروا" أن إضراب العاملين قد يهدد فرصها في إنجاح مؤتمر المانحين، فيما ادعى المتحدث باسم الوكالة عدنان أبو حسنة أن اللاجئين الفلسطينيين والفئات الأكثر هشاشة يدفعون ثمن هذا الإضراب.
وكانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" أبلغت المدرس في مدرسة جبل الطابور في مخيم نهر البارد محمد ابو خليل (أبو عرب) بقرار فصله في 8 شباط / فبراير2022، بسبب ما نسبته له من نشاط سياسي، كما فصلت الموظف نديم الحاج من عمله على خلفية نشاط مماثل، قبل أن تتراجع تحت الضغط الشعبي، وفي آذار/ مارس 2023 أوقفت المعلم رياض مصطفى عن العمل بعد نشر لمقطع فيديو يتضمن وداع والدة الشهيد ابراهيم النابلسي لابنها، وواصلت على نحو دؤوب خلال العام الماضي تصعيد إجراءات الترهيب والتحذير والعقوبات الملحقة بالموظفين على خلفية دفاعهم عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين أو تعبيرهم عن مواقف سياسية داعمة لنضال شعبهم، في إطار تنفيذ وكالة "أونروا" لاتفاق الإطار الموقع بينها وبين الإدارة الأمريكية والذي تضمن تشريع عمليات الملاحقة السياسية ضد الموظفين في "أونروا" على خلفية المواقف من الحقوق الفلسطينية، في تخلي واضح من قبل "أونروا" عن دورها في الدفاع عن حقوق اللاجئين لمصلحة الرقيب الذي ينتهك هذه الحقوق ويعاقب من يدافع عنها.
الاحتجاج تعبير عن موقف مجتمعي عام
هذا الاحتجاج وإن كان يحمل لواءه الموظفون المضربون بشكل أساسي، إلا أنه يعبر بشكل كبير عن نقمة عميقة في مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين ولدى عموم الفلسطينيين تجاه سياسات وكالة "أونروا"، حيث ترى العديد من القوى الفلسطينية أن تقليص "أونروا" لخدماتها هو إجراء مسيس يشكل انصياعاً للضغوط الهادفة إلى تصفية قضية اللاجئين وحقوقهم.
فعاليات فلسطينية عدة وقوى سياسية أبدت دعماً تصاعدياً لمطالب الموظفين المضربين، وشاركت في وقفات تضامنية معهم، أبرزها تلك التي نظمتها لجان اللاجئين وشاركت فيها مختلف الفصائل، بجانب بيانات صدرت عن هذه القوى السياسية نددت فيها بتعنت "أونروا" وبإجراءات التقليص، والعقوبات المفروضة ضد الموظفين المحتجين.
مع ذلك لابد من القول: إنه حتى الآن لم تتطور مقاربة شاملة للتعامل مع سياسات التقليص التي تقوم بها وكالة "أونروا"، والتي تقود إلى تصفية تدريجية لمعظم خدماتها، وتحلل واضح من التزاماتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين، بما يشكل إذعاناً لمساعي تفكيك وكالة "أونروا" وتصفية حقوق اللاجئين ووجودهم، خصوصاً أن هذه التقليصات صارت تهدد إمكانيات حصول اللاجئين الفلسطينيين على الخدمات الحيوية التي يحتاجون لها من أجل البقاء، وتشكل عامل ضغط باتجاه تهجير هؤلاء اللاجئين من خلال خلق ظروف تستحيل فيها الحياة وتهيمن على معظم مخيمات وتجمعات اللاجئين الفلسطينيين.
من أجل وقف الابتزاز الدولي
إن الاطراف المعنية بحقوق اللاجئين الفلسطينيين وفي مقدمتها الأطراف الفلسطينية الرسمية، والهيئات والأطر الشعبية ذات الصلة والتي تحظى برصيد وثقل في مجتمعات اللاجئين، وكذلك التشكيل والطيف الواسع من المؤسسات الأهلية العاملة بين اللاجئين، ملزمة بتحرك جماعي يصيغ رؤية ومقاربة لمواجهة شاملة مع سياسات وكالة "أونروا"، من أجل الضغط عليها وإلزامها بمهامها وواجباتها التي تأسست لأجلها، ووقف توجهها المتسارع من أجل نزع حقوق اللاجئين في الخدمات الحيوية والتعليم والصحة والإمداد الطارئ و الإغاثة والتشغيل، واستحضار رؤية تنموية لمجتمعات اللاجئين، وهو ما يتطلب مساعي وجهود ضاغطة محلياً، وأيضاً تحركاً دبلوماسياً وشعبياً ومؤسساتياً يعيد التأكيد على مسؤولية الأمم المتحدة عن مهام وكالة "أونروا"، بما يشمل استصدار قرار أممي بوضع موازنة ثابتة لـ "أونروا" كجزء من موازنة الأمم المتحدة.
وعلى الصعيد السياسي، لا يبدو الموقف الفلسطيني حتى الآن كافياً، فلا يمكن أن يتواصل التعامل مع سياسات وكالة "أونروا" باعتبارها قضية خدماتية تُترك للجان اللاجئين في الفصائل ولدائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية، فما يجري هو سلوك سياسي ينتج عنه أثر سياسي واضح على قضية الفلسطينيين الرئيسية ويمس بأغلبيتهم المتمثلة باللاجئين، وهو ما يتطلب مواقف وتحركات سياسية من أعلى الهرم السياسي الرسمي والفصائلي.
وبالقدر نفسه، فإن سياسات الدول العربية المضيفة فيما يتعلق بملف اللاجئين وتوجهات وكالة "أونروا" تحتاج إلى مراجعة ومسائلة فهذه الحكومات بتراخيها المستمر في مواجهة سياسات "أونروا" والأطراف المهيمنة عليها، تخاطر بانسحاب وكالة "أونروا" تدريجياً من التزاماتها، بما يعنيه ذلك سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
لقراءة وتحميل ورقة الموقف اضغط/ ي هنا
إضراب موظفي "أونروا" في وجه ابتزاز الوكالة