لم يعد من الممكن أن تمحو "إسرائيل" صورتها لدى شعوب العالم بعد ارتكابها آلاف مجازر الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة التي راح ضحيتها نحو 30 ألف فلسطيني، إذ انطبعت في أذهان شرائح واسعة من شعوب العالم، ككيان قائم على جرائم الإبادة.
وحيث صنفت كثير من المؤسسات الحكومية والدولية الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزة بأنها انتهاك لاتفاقية منع الإبادة الجماعية، وهو ما أيدته محكمة العدل الدولية في قراراتها الصادرة بعد دعوى جنوب افريقيا ضد "إسرائيل" بمطالبتها حكومة الاحتلال باتخاذ تدابير لمنع الإبادة، رغم عدم مطالبتها صراحة بوقف إطلاق النار.
لكن السؤال هنا، ما هو دور القوانين وكذلك المؤسسات الدولية العاملة في القطاع، في حماية المدنيين الفلسطينيين العزّل من الإبادة، وتطبيق مبادئها على الأرض أمام "الاستثناء الإسرائيلي"، الذي استطاع تفريغ القانون الدولي من محتواه، وحضر ذلك في كل الانتهاكات والتجاوزات الدولية، والتي تجسدت بأكبر صورها في قصف المستشفيات واقتحامها وتحويلها الى أهداف عسكرية، وهو ما يخالف اتفاقية جنيف الرابعة لعام ١٩٤٩ ( التي خصصت لحماية المستشفيات والمرضى المادة١٨، والمادة١٦).
قد لا تكون هناك فائدة من تكرار السؤال حول مدى جدوى القوانين الدولية وقرارات محكمة العدل ومجلس الأمن في ظل هيمنة الدول الداعمة للاحتلال على المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي تدعم عمليات الإبادة الجماعية في غزة، بالعتاد العسكري، والسكوت المطلق تجاه التجاوزات "الإسرائيلية" للقوانين الدولية، بينما لا تملك المؤسسات الدولية الأمينة على القانون الدولي، أيّة قوّة تُلزم الأطراف الصادر بحقها حكماً أو إلزاماً بإجراء ما، على تطبيقه، ولكن ماذا عن المؤسسات الإنسانية نفسها التابعة للمنظومة الأممية؟
بأي مبرر تجاهلت "أونروا" والصليب الأحمر الدولي متطلبات الواقع على الأرض؟
وبعيداً عن القرارات الأممية التي تتجاهلها "إسرائيل" وإذا اقتربنا من المؤسسات الدولية والإنسانية نفسها، في ميادين عملها الإنساني في قطاع غزة، قد نجد في أدائها ما يشير إلى "أنّ الإنسان الفلسطيني غير جدير بالمعايير الدولية الإنسانية، وبالتالي لا يستحق تكريس الجهود العملية لحمايته"، وهو ما بدا جلياً في أداء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" والصليب الأحمر الدولي، فالمسألة هنا ليست قرارات فوقية لا يأبه بها الاحتلال، بقدر ما هي جهد عملي إنساني على الأرض، لا مبرر لتجاهل متطلباته في الواقع الميداني.
وفي ما يخص "أونروا" عند طرح سؤال حول الدور الذي قدمته، خلال الحرب المستمرة على غزة، علينا أن نفهم نطاق عمل الوكالة، وماهية الخدمات التي تقدمها، فالوكالة بدأت عملها في ديسمبر/كانون الأول عام ١٩٤٩، بموجب قرار الجمعية العامة رقم (٣٠٢)، وتقدم الأونروا الخدمات الإنسانية الأساسية، في مجال التعليم والرعاية الصحية والعقلية، والخدمات الاجتماعية، والقروض الصغيرة، والمساعدة الطارئة بما في ذلك حالات النزاع المسلح، وهي مسؤولة عن نحو٧٥٪ من سكان القطاع.
منذ بداية الحرب على غزة، تخلت "أونروا" بشكل واضح، عن مسؤولياتها تجاه شمال القطاع، لحظة انسحابها منه، بالتزامن مع أوامر تهجير قسري أطلقها الاحتلال لسكان الشمال لتفريغه من سكانه، فكانت الوكالة من أوائل المستجيبين، وتركت مئات الآلاف من المدنيين دون أي حماية من جنون الآلة الحربية "الإسرائيلية"، إضافةً إلى تركها المخازن عرضةً للقصف "الإسرائيلي"، وسط مجاعة حقيقية في غزة، كما لم تعمل على تأمين ممرات آمنة للنازحين، أو حتى تجهيز مراكز الإيواء بأدنى مقومات الحياة، لتختم كل هذا بتعليقها حتى قوافل المساعدات الضئيلة التي كانت تسيّرها بين فترة وأخرى إلى شمالي قطاع غزة الذي تتكرس فيه معالم المجاعة منذ شهور.
منذ ثاني أيام الحرب تركت الأونروا شمالي قطاع غزة يواجه مصيره
الصحفي الفلسطيني حاتم رواغ النازح إلى مخيمات رفح جنوبي القطاع، يقول لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إن التقصير في تقديم الخدمات من قبل الأونروا كان واضحاً جداً في هذه الحرب الشرسة.
ويضيف الصحفي رواغ: أنّ دور الوكالة، قد اقتصر على توزيع الطحين فقط في جنوبي القطاع، أما الخيام فتركت دون معونات غذائية، أو خدمات طبية، "رغم أن مهمة الوكالة أكبر بكثير مما قدمته".
أيضاً الصحفي الفلسطيني حسام شبات يشير لموقعنا، إلى أنّ الوكالة تركت الفلسطينيين لوحدهم في شمالي قطاع غزة، منذ ثاني أيام الحرب، "تخلت عنا وتركتنا لمصير الموت المستمر".
يجمع كثير من أهالي قطاع غزة المنكوبين أن وكالة "أونروا" لم تقم بدورها في حماية الفلسطينيين من تبعات الحرب، على الأقل بتوفير الإيواء المناسب والحماية المطلوبة، بل بدت وكأنها تستجيب لأوامر الاحتلال، وكأنه نجح بتطويعها لرغباته، حيث كانت من أوائل المؤسسات الأممية، التي أعلنت تخليها عن دورها القانوني والحمائي والإنساني، تجاه مئات آلاف اللاجئين.
الانصياع هذا لم يحمها هي نفسها من مخططات الاحتلال "الإسرائيلي" الذي حرص على تنفيذ خطته بإنهاء دور الوكالة وإلغاء وجودها ، وما أبدته الوكالة من مقاومة لهذا السعي "الإسرائيلي" عبر التأكيد على قانونيتها واستمرارها في عملها، "لم يكن منسجماً مع دورها على الأرض" بحسب مراقبين.
عدم استجابة فرق الصليب الأحمر للمناشدات بدا للناس وكأنه مشاركة في القتل
أما منظمة الصليب الأحمر الدولي، فقد تلقت كما "أونروا" العديد من الاتهامات وصلت إلى حدّ "التواطؤ" مع جيش الاحتلال، خلال الحرب في غزة، أبرزها "التخلي عن مبادئها في عملها داخل القطاع"، والتي تتلخص في تقديم الخدمات الصحية للمصابين أثناء الاشتباكات، وتوزيع المواد الإغاثية للمتضررين والنازحين مثل (الخيم-المواد الغذائية-والأغطية…)، وتسهيل عملية وصول سيارات الإسعاف، والعمل على إخلاء المصابين، والجرحى، والطاقم الطبي، إلى أماكن آمنة، وأيضاً الاستجابة لحالات الطوارئ، والاستغاثات التي تصل إليها.
آلية تطبيق تلك المنظمة الدولية الإنسانية لمبادئها تجاه أهالي قطاع غزة وهم يتعرضون لمجازر الإبادة، بدت غير مجدية، فالمنظمة لم تساعد في إخلاء المصابين وسيارات الإسعاف، كما لم تؤمن طرقاً آمنة، ولم تعمل على توزيع المساعدات الطبية والغذائية، ولم توفر الحماية اللازمة للمدنيين، بحسب ناشطين فلسطينيين.
يقول "محمود" وهو شاب نازح من قطاع غزة لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ "عشرات المناشدات تصل الى مراكز الصليب الأحمر الدولي في القطاع، من عائلات لإنقاذهم ولكن دون جدوى، وبعضهم كانوا محاصرين بالدبابات الإسرائيلية، أو تحت الأنقاض."
ويصيف الشاب: إنّ "عدم استجابة فرق الصليب الأحمر للمناشدات بدا للناس وكأنه مشاركة في القتل، وردهم دائما كان بجملة واحدة، نحن في منطقة قتال ولا نستطيع التحرك."
ولعل ما زاد الاتهامات للصليب الأحمر بـ "التواطؤ" ما صرح به رامي عبده رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في مقابلة له مع قناة الجزيرة، قال فيها: "إن الصليب الأحمر لديه مولدات كهربائية في مخازنه، لكنه رفض إيصالها إلى مستشفى الشفاء وإلى مستشفيات أخرى، كما يرفض تعزيز أفراده والتحرك لإنقاذ الناس".
يقول الصحفي حاتم رواغ أيضاً: إنّ دور الصليب كان سلبياً، حيث لم يتم الرد على العديد من الاستغاثات، ولا حتى على المكالمات الهاتفية، وهي تقريباً أول مؤسسة دولية باشرت الإخلاء من شمال القطاع، ولم تكترث للناس، والمناشدات الإنسانية الطارئة، بل لم تنبه الناس إلى ضرورة الإخلاء، إلا عند إلقاء جيش الاحتلال للمناشير الورقية.
عماد منذر ممرض فلسطيني في المستشفى الأوروبي يقول: "هناك فتور في تقديم الخدمات من قبل الأونروا والصليب الأحمر، هناك نقص كبير في الإمدادات الطبية، ولا توجد منطقة آمنة في غزة".
بالرغم من أهمية الدور الدولي الإنساني، المكلفة به منظمة الصليب الأحمر الدولي لحماية المدنيين والمرضى، والمنوطة بها مهمة مراقبة مدى احترام القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين، إلا أنّ أداءها تجاه حماية الإنسان الفلسطيني بدا فيه نوع من "التخاذل" بحسب الشهادات، وكذلك الأداء العملي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" والتي رغم أهميتها لقضية اللاجئين سياسياً وقانونياً ومعيشياً، إلا أنها لم تؤد واجبها، بل وعكست تلك المنظمات ومنظمات أخرى في أدائها، نهج المعايير المزدوجة، وغياب العدالة الدولية والضميرية، التي لم تشكل فقط حالة عجز في الجانب الحقوقي فقط، بل لغت كل تصديقنا بالعدالة المحتملة تجاه القضية الفلسطينية.