تدخل الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزة شهرها العاشر على التوالي، مخلّفة دماراً واسعاً لحق بالبنية التحتية والحضرية للقطاع المُحاصر، قدّر حجمه في نهاية فبراير بنحو 39 مليون طنّ من الحطام، وفق تقديرات أولية أممية. يأتي هذا التدمير الممنهج في سياق الأهداف العسكرية "الإسرائيلية" بإحالة مدن وريف القطاع ومخيمات اللاجئين إلى تلال من الركام غير القابلة للحياة، عبر أدوات حربية صُممت للتدخل ديموغرافياً؛ بالتقسيم الجغرافي وأوامر الإخلاء، ما أدى لتكدّس مئات الآلاف من النازحين في مواصي خان يونس ومخيمات الوسط، والتي تتعرّض بدورها، خلال شهر تموز الحالي، لهجوم "إسرائيلي" مكثف مع تصاعد الغارات الجوية والقصف المدفعي وعمليات النسف، المكثّفة على المناطق الشرقية لمخيمي البريج والمغازي والمناطق الشمالية لمخيم النصيرات. إلى جانب ذلك، تطاولت أهداف التدمير لتطال المصادر الحيوية شرق مخيمات الوسط، ما أدى لتعطيل الخزانات الجوفية والأراضي الزراعية، والتي تشكل مصدراً هاماً من المصادر الحيوية للقطاع، ويقع جزء أساسي منها، على حدود مخيمات الوسط الشرقية، البريج والمغازي إلى جانب ضواحي مخيم النصيرات الشمالية، التي ترزح تحت سياسة القضم التدريجي، منذ بدء المناورة البرية، لحساب إنشاء ما تسمى بــ"المناطق العازلة".
المنطقة العازلة: توسّع الطوق
تُعرّف المنطقة العازلة في القانون الدولي، بـ "أنها مساحة تحدّدها الأمم المتحدة في بلد ما، لتوفير الحماية للسكان المدنيين في حالات الحروب والصراعات"، أو "مساحة فصل بين القوات المتحاربة، تنطلق منها عمليات حفظ السلام وتخفيف التوتر"، إلّا أنّ أياً من هذه التوصيفات القانونية، لا تقترب من تفسير طبيعة المنطقة العازلة ودورها على الحدود البرّية لقطاع غزة وخواصره في الوسط.
فمنذ أن فرضت "إسرائيل" في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين منطقة عازلة داخل أراضي غزة، أخذت تلك المنطقة مساراً توسعياً. وعقب تطبيق خطة الانسحاب عام 2005، أصدر جيش الاحتلال "الإسرائيلي" إشعارًا بفرض مسافة لا تقل عن 150 متراً من السياج الحدودي. ولاحقاً، وبعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في عام 2007، توسّعت المنطقة العازلة إلى حدود 300 متر، واستمرت عند ذلك الحد حتى تشرين الأول/ أكتوبر 2023. فمع بدء المناورة البرية في غزة، أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، شرعت "إسرائيل" بإنشاء نحو 16 منطقة عازلة على طول الحدود، بعمق 1 كم من السياج الحدودي إلى داخل قطاع غزة، وبمساحة تقدر بــ (57 كم²) أي قرابة 16% من مساحة قطاع غزة البالغة 365 كم²، وتُشكّل 35% من أراضي القطاع الصالحة للزراعة. كل ذلك يجري، بحجة منع عمليات التسلل إلى داخل "الكيبوتسات" ومراكز قيادة العمليات في غلاف غزة، أو القوات المنتشرة في ممر (نيتساريم) الممر الذي صار يفصل جغرافياً قطاع غزة إلى نصفين، شمالاً وجنوباً.
المخيمات الوسطى في مواجهة العزل
اندلعت اشتباكات عنيفة في منطقة "المصدّر، بالقرب من مخيم المغازي، بتاريخ 8 كانون الثاني/ يناير 2024، وقد طوّقت الفرقة (36) في جيش الاحتلال المخيّم من جميع اتجاهاته. وفي اليوم التالي، جرى تطويق مخيم البريج المجاور، وبقيت الفرقة (99) متمركزة على الحدود الشرقية لمخيم النصيرات، قبل انسحاب الجيش بشكل كامل، إلى الحدود الخلفية شرقي مخيمي المغازي والبريج، الواقعين على الجناح الشرقي لشارع صلاح الدين، مخلّفاً هذا التوغل، دماراً واسعاً في المخيمات وضواحيها.
بالموازاة مع ذلك، جرى مسح بؤرة "مقبولة" السكنية بالكامل، والتي تقع بين مخيمي المغازي والبريج، ويقطنها فلسطينيون تمدّدوا عمرانياً مع الوقت، مع اكتظاظ مراكز المخيمات وتكدس اللاجئين في مساحاتها الضيقة للغاية لعقود طويلة. وفي نيسان/ إبريل الماضي، أعاد جيش الاحتلال "الإسرائيلي" شنّ هجوماً عسكرياً عنيفاً، بهدف توسيع المنطقة العازلة لممر "نيتساريم" على حساب الأراضي الواقعة شمالي مخيم النصيرات، وقد حوّلت عمليات القصف المركّز بالمدفعية والغارات الجوية وأعمال التجريف تلك المناطق لمساحات مدمرة بالكامل، بعد أن كانت مركزًا حضريا هامًا، يتطور ويتوسع منذ سنوات، ليضم مباني لجامعات غزة (الجديدة) ومشافٍ صحية ومؤسسات عديدة، إلى جانب تجمعات سكانية على شاكلة مدن صغيرة، يسكنها عشرات الآلاف من الفلسطينيين، كمدينتي "الزهرا" و"المغراقة"، وأحياء جديدة من مخيم النصيرات.
تتجاوز الغاية من المنطقة العازلة اعتبارها "هدفاً عسكريا مؤقتا يخدم الجهد الحربي"، إلى أهدافٍ بعيدة المدى؛ عبّر عنها، ما يسمى وزير الخارجية في كيان الاحتلال "الإسرائيلي" "إيلي كوهين"، في مقابلة إذاعية بتاريخ 18 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، من أنه "في نهاية الحرب...، ستنخفض مساحة غزة أيضاً"، في إشارة إلى نيّة "إسرائيلية" في الاحتفاظ بتلك المناطق التي جرى الاستيلاء عليها، وتقليص مساحة قطاع غزة الذي يعاني بالأساس من الكثافة السكانية العالية.
بهذا الشكل، تتضافر أدوات القتل والهدم والإزاحة القسرية، مع الأهداف "الإسرائيلية" للحرب، والتي تأتي في سياق الاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين ومصادر أعمالهم، وتقويض حريتهم بالحركة والتنقل، وتعقيد موقفهم إزاء العودة إلى منازلهم المدمرة أصلاً، وسط تصاعد المحاذير من مواصلة توسيع المنطقة العازلة، والتي تقف الآن على حدود البريج والمغازي الشرقية والحدود الشمالية لمخيم النصيرات، وتهيمن عليها قوات الاحتلال إما بالوُجود العسكري ونقاط المراقبة أو بالسيطرة النارية وأعمال التجريف والنسف، وتحضير تلك المناطق لتكون جزءا من "الممرات الأمنية" وخطوط الإمداد اللوجستي، التي تخدم انتقال عمليات جيش الاحتلال في القطاع لما يسمى بالمرحلة الثالثة، والمعتمدة على الإغارة السريعة نحو عمق المناطق الحضرية؛ على شاكلة ما جرى شرق مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، وبلدتي بيت حانون وبيت لاهيا. في حين أن، مخيم دير البلح الواقع على الجناح الغربي لشارع صلاح الدين، والذي لم يجر التوغل إلا في محيط الأراضي الشرقية المقابلة له. وقد أصبح من بين مراكز النزوح الأعلى اكتظاظاً، ما زال الخطر يحدق به، ولا يزال معرضاً للتهديدات المتوالية في التصريحات "الإسرائيلية"، التي تتوعده بهجوم عسكري مستقبلي. وفي حال تم ذلك، سيشهد القطاع أحد أكبر الأزمات الإنسانية التي واجهها منذ بدء حرب الإبادة "الإسرائيلية" وأكثرها تعقيداً، حيث يؤوي المخيم ومحيطه قرابة المليون نازح بعد موجات النزوح المتواصلة من شرقي القطاع وشماله إلى جنوبه وغربه، مع تواصل القصف بكل أشكاله على المخيم وضواحيه، على الرغم من ادعاءات الاحتلال أنه يقع ضمن "المناطق الآمنة"، بينما لا يوجد مكان واحد آمن في قطاع غزة.
تشكل العملية الجارية الآن جنوب أراضي المخيم، تحديداً في الأراضي الواقعة بين دير البلح وخانيونس هاجساً، يتكرّس مع تطورات العملية، خشية محاولات إسرائيلية لإعادة فصل المنطقة الوسطى عن جنوب قطاع غزة، من خلال محاولة إعادة تدشين ممر أمني في منطقة (القرارة/المطاحن)، "أبو هولي" سابقاً، جنوب دير البلح، إلى جانب محاولة قضم مساحات كبيرة من مخيمي البريج والمغازي، في إطار سياسة الاحتلال الرامية إلى زجّ النازحين غرب شارع صلاح الدين، وحصارهم في تلك البؤر، من الجهات الثلاثة (شمالا وجنوبا وشرقا)، فيما تتكفل الجبهة البحرية الغربية بإحكام حلقة الطوق على مخيمات النزوح الساحلية.