مخيم جباليا أو كما عرف بمخيم "الثورة"، الشوكة التي وقفت في حلق الاحتلال والعقبة الكبرى في طريق تنفيذ مشاريعه الاستعمارية بفضل التاريخ الطويل من النضال الذي ابتدأ من الشرارة الأولى لاندلاع الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة).
ووصولاً إلى معركة طوفان الأقصى عاد المحتل "الإسرائيلي" بمخططات قديمة لتنفيذها على خلاف أدواتها وأبرزها القتل والتهجير والتجويع لينتقم من المخيم وأهله بعدوان شامل مارس خلاله أبشع صنوف الاعتداءات بحق الفلسطينيين شمالي قطاع غزة.
ومنذ السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، تشهد مناطق شمالي قطاع غزة وعلى وجه الخصوص مخيم جباليا أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في القطاع، أكبر حملة إبادة على يد قوات الاحتلال التي شنت عدواناً موسعاً أسفر عن أكثر من 770 شهيداً وجرح أكثر من ألف جريح وعشرات المفقودين و200 معتقل خلال 20 يوماً كما أجبر الاحتلال آلاف المدنيين تحت تهديد القتل بالنُّزوح الإجباري من منازلهم وأحيائهم السكينة.
تغطية صحفية|| عدد كبير وغير معلوم من الأسرى الفلسطينيين اقتادهم جيش الاحتلال "الإسرائيلي" من #مخيم_جباليا وشمالي قطاع #غزة إلى معسكر "سديه تيمان" سيء الصيت وصار مصيرهم مجهولاً وسط تحذيرات من قبل مؤسسات حقوق الإنسان https://t.co/vvAQuQ2Zzs pic.twitter.com/AxveOS1jah
— بوابة اللاجئين الفلسطينيين (@refugeesps) October 24, 2024
تاريخ طويل من النضال بدأ بانتفاضة الحجارة
عُرف مخيم جباليا بأنه الرقعة الجغرافية الأكثر اكتظاظاً في شمالي قطاع غزة حيث كان يؤوي ما يقرب من 119 ألفاً و540 لاجئاً فلسطينياً على مساحة لا تتجاوز 1.4 كيلو متر، ويتمركز في الشمال الشرقي من مدينة غزة، على مسافة كيلو متر واحد من طريق غزة- يافا.
وأنشئ مخيم جباليا عام 1948، حيث قطنت فيه حينها، 5587 أسرة فلسطينية هجرت قسراً من: من مدن أسدود، ويافا، واللد، والرملة، وبئر السبع في فلسطين المحتلة.
ولطالما شكّل مخيمُ جباليا محطة حاسمة ومفصلية من محطات النضال الأولى ضد الاحتلال "الإسرائيلي" كما مثّل الحاضنة الأولى للمقاومة الفلسطينية فيما شكّل الحصن المنيع في وجه كل محاولات التهجير على مر التاريخ.
بوابة الدفاع الأولى وصمام أمان شمالي قطاع غزة
يؤكد الباحث في الشأن السياسي أحمد الطناني لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، أن نموذج مخيم جباليا شكّل صمام أمان رئيسياً لمناطق شمالي قطاع غزة، إذ مثَّل قبلة النازحين من بيت حانون وبيت لاهيا، في وقت العمليات العسكرية في المدن الحدودية، ليعودوا أدراجهم إلى مناطق سكنهم فور انسحاب جيش الاحتلال، وهو ما جعل من وجود مخيم جباليا وتماسكه بوابة تماسك لكل مدن وأحياء شمالي القطاع.
ويوضح الطناني، أن البيئة المتماسكة، وحجم البنية التحتية للقوى والفصائل، سمحت لأن يُشكِّل مخيم جباليا مركزًا رئيسيًّا لقيادة العمل الوطني، وبوابة محورية في إفشال خطط الاحتلال، خاصةً إجهاض كل محاولة لتخلق نموذجاً متعاوناً، كان يُفترض أن يكون شمالي قطاع غزة محطته الأولى.
ويرجح الباحث في الشأن السياسي تشكيل مخيم جباليا معضلة أمام تنفيذ مخططات الاحتلال كونه يحمل الكتلة البشرية الأكبر في شمالي قطاع غزة، ومصدر التماسك لمناطق الشمال "الذي أفشل بوضوح خطة تفريغ أحياء ومدن الشمال من سكانهم".
وقال لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ المخيم لطالما كان نقطة الانطلاق للجان الحماية الشعبية، وعامل التصدي الأبرز لخطط الفوضى والبلطجة والفلتان، ما جعله البيئة الأكثر تماسكًا وأمنًا في مناطق الشمال، وعنوان الإفشال المستمر لخطط الاحتلال.
كيف حاول الاحتلال العبث بديمغرافية وجغرافيا مخيم جباليا؟
ويقول الطناني: "منذ الأيام الأولى للكفاح المسلح، حاول الاحتلال مرات متعددة إعادة هندسة المخيم جغرافيًّا وديمغرافيًّا ارتباطًا بمعادلات المواجهة المستمرة حيث خضع مخيم جباليا لمحاولات تفكيك البنية السكانية".
وأوضح أن الاحتلال هجر أجزاء من سكان المخيم إلى أحياء جديدة، مثل مشروع بيت لاهيا ومنطقتي الجرن والنزلة، وهدم المئات من المنازل في المخيم، تحت دعاوى التوسيع وفتح الشوارع بما يسمح لدوريات الاحتلال بالتحرك بأريحية داخل أزقة المخيم.
ولفت إلى أن الاحتلال استخدم كل الأدوات من أجل تحويل التجويع والقتل إلى أداة للهندسة الاجتماعية، وإعادة صياغة أولويات المجتمع في شمالي قطاع غزة، بوضعهم أمام خيارات محدودة: الموت جوعًا، أو الموت قتلًا بالصواريخ والقذائف، أو التهجير والنزوح، أو التعاطي مع وسيط دولي يقدِّم المساعدات والمأكل والمشرب في معازل جغرافية خاضعة للفحص والسيطرة "الإسرائيلية".
كان مخيم جباليا محطة الانطلاق الرئيسية لنشاط لجان الحماية الشعبية في شمالي قطاع غزة ، وهي التي تولت تأمين قوافل المساعدات، ومنعت محاولات الاحتلال لإحلال الفوضى في شمالي القطاع، حيث كان يأمل من خلال نشر الفوضى بإحلال نظام بديل تُشكل عصابات البلطجة عماده الرئيسي، بحسب تعبير الطناني الذي وصف أيضاً بأن المخيم "شكَّل الأرضية الصلبة التي تستند إليها كل أحياء شمالي القطاع غزة في إعادة مظاهر الحياة والثبات على الأرض والإفشال المستمر لمحاولات تحويل الشمال إلى منطقة خالية من السكان".
محاولات فاشلة لبناء نموذج "اليوم التالي" في مخيم جباليا
ويشرح الطناني بمزيد من التفصيل أسباب تعرض مخيم جباليا لعميات عسكرية عدة طول مدة حرب الإبادة "الإسرائيلية" على قطاع غزة بالقول: في كل مرة بحث فيها الاحتلال عن صيغة لتمريرها من أجل بناء نموذج "اليوم التالي"، يشن عملية عسكرية موسَّعة استهدفت مخيم جباليا.
مشيراً إلى أن العملية العسكرية الأولى في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ترافقت مع محاولة الاحتلال العمل مع العشائر، والعملية العسكرية الثانية في أيار/ مايو 2024 ترافقت مع خطة الاحتلال لإنشاء "فقاعات غالانت الإنسانية"، فيما تترافق العملية العسكرية الحالية على المخيم مع خطة استقدام الشركة الأمنية الأمريكية.
تغطية صحفية|| 19 يوماً من العدوان "الإسرائيلي" غير المسبوق بوحشـــيته ضد #مخيم_جباليا وشمالي قطاع #غزة
— بوابة اللاجئين الفلسطينيين (@refugeesps) October 23, 2024
حمـــلات تهجــــيـر وإبــ..ادة لا يستوعبها عقل بشري ولا ضمير إنسان #غزة_الآن pic.twitter.com/XBbYTpQxMf
ويعتقد الباحث في الشأن السياسي أن الاحتلال يسابق الزمن لتجاوز الفشل المتكرر في تطبيق أي نموذج لـ "اليوم التالي" وفق الرؤية "الإسرائيلية".
كما يرى الطناني أن فشل المخططات المتكرر يشكل عامل ضغط، وفي كل مرة يبدأ فيها عملية عسكرية يحاول إزالة عوامل الإفشال، وهو ما يوصل الاحتلال لقناعة أنه لا يمكن أن تمر مخططاته.
ولفت إلى الخطة الجديدة للاستعانة بالشركة الأمنية الأمريكية لتطبيق نموذج "الفقاعات الإنسانية"، التي تستهدف مناطق شمالي قطاع غزة كنموذج تجريبي، دون تحييد قدرة أهالي شمالي القطاع على الرفض والمواجهة وإفشال هذه الخطط، وبالتالي إخراج مخيم جباليا من دائرة التأثير.
ماذا يريد الاحتلال من مخيم جباليا؟
ويرجح الطناطي أن الاحتلال يريد القضاء على مخيم جباليا بوصفه كتلة بشرية وبقعة سكانية شكَّلت معضلة تاريخية لجيش الاحتلال عبر امتداد سنوات الاحتلال.
وبرأيه أن الاندفاع "الإسرائيلي" غير مرتبط بأهداف عسكرية أو أمنية محدودة، بل يهدف إلى الإجهاز على مخيم جباليا وإنهاء هذا الفصل إلى الأبد، "ما سيمهد لخلق حالة من الردع الشامل لكل مناطق شمالي قطاع غزة، وسيخلق مساحة ممكنة للعمل مع معازل سكانية محدودة، دون فواعل تأثير تجهض وتتصدى لخطط الاحتلال".
مخيم جباليا "مثال للصمود الأسطوري"
ويبدو جلياً أن مشهد الصمود في مخيم جباليا يتعدى ويفوق كل قدرة على التخيل، ويحمل في مضامينه إصراراً على التمسك بالأرض والمواجهة غير مرتبط بالبنية الفصائلية حصرًا بقدر ما هو مرتبط بالثبات المبدئي لأهالي مخيم جباليا والمسؤولية الذاتية والجماعية لأهالي المخيم المدرك لمحورية دور ومكانة المخيم، بحسب الطناني.
يعبر الباحث السياسي ابن المخيم بأنه على الرغم من حجم الدمار الكبير، إلا أن ملامح الصمود السائدة، وحالة الرفض الجمعي لخيار النزوح، والتبني لفكرة الصمود والثبات موجودة وما يعكس ذلك صمودُ مستشفيات شمالي قطاع غزة، ورفض إخلائها والاستمرار في عملها على الرغم من كل تهديدات الاحتلال.