ما يميز ذاكرة الأجيال الفلسطينية المتعاقبة، أنها وبعد 77 عاماً على النكبة لا تزال تحتفظ بمشاهد وصور لم يعشها أفراد هذه الأجيال لكنهم ورثوها وحفظوها من أجدادهم وآبائهم الذين عاشوا النكبة والتهجير واللجوء لتتحول إلى جزء من ذاكرتهم.

إلى هذه الذاكرة اليوم، مشاهد أقسى وصوراً أكثر إيلاماً ستبقى محفورة فيها وتنتقل إلى أجيال لاحقة، لما يحصل في قطاع غزة من إبادة جماعية لم يشهد التاريخ الحديث لوحشيتها مثيلاً.

ومع حملهم ذاكرة نكبة لم يعيشوها بأنفسهم بل عاشوا آثارها، تُعاد السيناريوهات والمشاهد أمامهم ثانية، والتاريخ يكرر نفسه لديهم منذ بدء حرب الإبادة على غزة، مشاهد فتحت جروحهم التي لم تندمل، لاسيما مع صور المجازر والتهجير القسري والتجويع، هي الصور ذاتها ولكن بطعم أقسى وأمر.

هذه الحال مع الناشط واللاجئ الفلسطيني ركان محمود من مخيم الحصن للاجئين الفلسطينيين في الأردن، تحمله ذاكرته إلى منطقة مضرب بدوي أحد مضارب عرب الصقر يسمى الحمرا ضمن قضاء بيسان وهي من أقدم المدن الفلسطينية والتي تعود لما قبل 4 آلاف عام قبل الميلاد وتقع شمال شرقي القدس المحتلة.

ويعود اللاجئ ركان إلى الوراء قليلاً ويحدث بوابة اللاجئين الفلسطينيين قائلاً: "كان أبي واجدادي يعيشون في مضرب الحمرا - بيسان حتى منتصف عام 1948 أحد مضارب عرب الصقر الكثيرة وتنتشر عائلات عرب الصقر حول بيسان إلى جانب العشائر".

بلدة عرب صقر عام 1948.png
بلدة عرب صقر عام 1948

ويشرح ركان محمود كيف تعرضت بلدة مضارب عرب الصقر لمناوشات عسكرية بين ثوار الصقر بالتعاون مع الجيش العراقي الذي كان يوجد في المنطقة بأعداد وعدة قليلة، ضد العصابات الصهيونية استمرت حوالي شهرين حيث تم حرق بيوت الشعر التي تؤوي الفلسطينيين في المنطقة.

بحسب رواية محمود، أطلق الجيش "الإسرائيلي" إشاعة حول قتله الأطفال والشيوخ والاعتداء على اعراض النساء وانكفاء الجيوش العربية التي لم تكن تمتلك قرارها بالقتال من عدمه، ما أثار خوف غالبية ابناء عرب الصقر الذين هجروا قسرياً -باستثناء اعداد بسيطة منهم- إلى أراضي طوباس ( برذلة ،جردلة ، عين البيضاء ) ولم يتسن لهم إلا نقل مواشيهم وعملوا في تربيتها والعيش منها ومكثوا في هذه المناطق حتى عام 1967 عام النكسة، ليلجؤوا مرة أخرى إلى الأردن هذه المرة.

يقول محمود: "أُجبرنا على الرحيل تحت تهديد القتل لم يكن أمامنا سوى الفرار من الموت، فاتجهنا إلى الأردن واستقر أغلبنا في مخيم الحصن، جنوب مدينة إربد".

ويضيف: "وما زال كثيرون من أهلنا منتشرين في قرى الأغوار الشمالية من الكريمة حتى المشارع. رغم مرور السنين، لم ننسَ بيوتنا، وما زال حلم العودة يسكن قلوبنا".

يعيش محمود كغيره من الفلسطينيين حالة من الإحباط مع ما يجري من إبادة جماعية في قطاع غزة مستمرة للعام الثاني على التوالي "في ظل خذلان من الأمة العربية والإسلامية وانعدام العدالة الأممية فضلاً عن تراجع الرأي العام العالمي أمام خوف قيادات دول العالم من الحركة الصهيونية"، على حد وصفه.

إلا أن الأمل يحدوه بأن يعود إلى فلسطين هو أو أبنائه لأن الذاكرة الفلسطينية لا تتوقف تنقل ذاتها من جيل إلى آخر.

محرقة لم ينج منها إلا امرأة في بئر السبع

أيضاَ، اللاجئ الفلسطيني أحمد عمرة من مخيم غزة في جرش لم يعش النكبة أو النكسة، لكن ذاكرته ملأى بما يرويه عنهما، فهو ورث ذاكرة جده الذي عاش في بلدة بئر السبع المحتلة وكان شاهداً على "المحرقة" التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين.

ويروي عمرة لموقعنا: "ارتكبت محرقة وحشية بحق أهلنا هنام عام 1948، حيث جمع الاحتلال عدداً من الأقارب والأجداد وسكان المنطقة في أحد الأماكن وجرى حرقهم جميعاً ونجت منهم امرأة واحدة روت لنا كل ما حصل".

تلت تلك "المحرقة" هجرة قسرية لبعض ممن تبقى من الأهالي الفلسطينيين ومن نجا منهم خلال عام 1948 إلى قطاع غزة ، حيث استقروا حتى عام 1967 حيث صارت هناك لجوء آخر إلى الأردن، يقول عمرة: " بقي بعض من عائلتنا في قطاع غزة أما والدي جاء إلى الأردن وتزوج وأنجب الأطفال وانا أحدهم في مخيمات اللجوء الفلسطينية بالأردن".

ويؤكد اللاجئ عمرة أنهم لا يزالون يحتفظون بالوثائق و"قواشين" الأرض، منتظرين العودة إلى منازلهم التي لم تصدأ مفاتيحها وباتت ذكرى باقية ما بقي حق العودة قائماً.

يكابد عمرة ما يكابده اللاجئون الفلسطينيون من أبناء قطاع غزة في الأردن من حيث عدم إعطائهم حقوقهم في العمل والتملك، والقوانين المجحفة التي تمنعهم من العمل بأكثر من 80 مهنة داخل المملكة، إلا أن يعيش رغم كل ما يشهده من مجازر في غزة واعتداءات في الضفة على أمل التحرير والعودة يوماً ما.

دير ياسين فزاعة الاحتلال التي هجرت أهالي قاقون

في مخيم بلاطة بمدينة نابلس شمالي الضفة الغربية ولد تيسير نصر الله بثلاث عشرة سنة، أما والداه فقد وُلدا قبل النكبة بإحدى عشرة سنة في قرية قاقون قضاء طولكرم.

يسترجع نصر الله أحداثاً من ذاكرته على لسان والداه: "ما أتذكره من أهوال النكبة هو ما سمعته من أبي وأمي، ومن أجدادي، فلقد خاض أهالي القرية، التي كان عدد سكانها يتجاوز الألف وخمسمائة فرداً، مقاومة شديدة راح ضحيتها العشرات منهم، ومن جنود وضباط الجيش العراقي الذي كان يدافع عن القرية، ومن ضمن الذين استشهدوا زوج عمة والدتي الذي كان هو مؤذن مسجد القرية".

وتابع: "كان مستوطنو المستعمرات القريبة من القرية هم الذين يطلقون القذائف باتجاه القرية، وأذكر أنني سمعت من والدتي أنهم أطلقوا ذات مرة قذيفة في وسط القرية أصابت عدداً من الأهالي بين شهيد وجريح، وبعد أن تجمّع الناس مرة أخرى في نفس المكان ليُسعفوا الجرحى تم إطلاق قذيفة ثانية عليهم مما أدى إلى استشهاد وإصابة عدد كبير من الأهالي".

قربة قاقون.png
قرية قاقون

ولم تكن لحظة الرحيل عادية بالنسبة للفلسطينيين آنذاك الذين تخوفوا من مصير مشابه لما حل بأهالي دير ياسين المجزرة الأشهر في التاريخ الفلسطيني فبعد عمليات القصف وارتقاء الشهداء وانسحاب الجيش العراقي من القرية بعد مقاومة بعض أفراده مقاومة بأسلحة بسيطة، لم يكن أمام أهالي القرية إلاّ النزوح إلى القرى المجاورة كعتيل ودير الغصون، ولم يأخذوا من أغراضهم إلاّ الشيء القليل بحسب رواية نصر الله.

آخر ما توقعه سكان بلدة قاقون أن يدوم اللجوء طويلا حتى يومنا هذا، الأمر الذي أكده نصر الله حيث روى أن بعض رجال القرية كانوا يتسللون ليلًا إليها لجلب مقتنياتهم الأساسية، حتى إنهم تركوا أبواب بيوتهم مفتوحة، ظنًّا منهم أنهم سيعودون خلال أيام.

وعن الرموز الشاهدة على النكبة التي رافقته في طفولته، يقول نصرالله:"لا أتذكر الآن أين وضع أجدادي وثائق ملكية الأرض أو مفاتيح البيوت، لكنها كانت أمامي عندما كنت صغيرًا، أراها بين أيديهم وعندما عدت من المنفى، لم أجد شيئًا منها".

وأصعب ما عاشه اللاجئ نصر الله هو عجزه عن تحقيق حلم العودة إلى قريته قاقون، التي لم يبقَ منها سوى أطلال القلعة وجدار المدرسة، بينما معظم من عايشوا النكبة من أبناء قاقون قد رحلوا.

ويحمّل نصر الله المجتمع الدولي جزءًا كبيرًا من المسؤولية مشيرا إلى أنه تخلّى عن واجبه في فرض تنفيذ القرار 194 على الاحتلال "الإسرائيلي"، فيما يستفحل الاستيطان، وتغيب أي خطة عربية أو إسلامية جادة لتحرير الأرض وإعادة اللاجئين، على حد قوله.

يعبر اللاجئ الفلسطيني عن حزنه إزاء المجازر المستمرة في قطاع غزة وسيناريوهات التهجير وإعادة رسم الخرائط في غزة والضفة على حد سواء، في مشاهد تشبه أو تستكمل ما تم عام 1948 فيما لا يزال "العالم يراقب معاناة الشعب الفلسطيني بصمت منذ 77 عامًا".

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد