منذ أن انتشرت موجات التضامن المؤثّر في مسارات الرأي العام الغربي والعالمي بشأن الموقف من القضية الفلسطينية، عقب أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تلاها من حرب إبادة منظمة وشاملة شنّتها "إسرائيل" ضد الفلسطينيين، بدأت الشركات المشغّلة لشبكات التواصل الاجتماعي بالتدخل لعرقلة هذا التضامن، فيما يشبه ممارسة "إبادة لغوية" عبر تدخل منهجي في خوارزميات هذه المنصات، التي سعت إلى الحدّ من وصول وانتشار المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية.

لسنوات طويلة، غابت مواضيع حق الشعب الفلسطيني في حريته وتقرير مصيره عن فضاء هذه المنصات. ولم يكن ذلك نتيجة قلة التفاعل أو ضعف اهتمام المستخدمين، بل نتيجة هيمنة نظام خوارزميات مبرمج على استهداف المحتوى الفلسطيني، لا يهدف فقط إلى تنظيم المعلومات وتسهيل التواصل، بل يتعدى ذلك إلى تقييد حرية التعبير، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا العادلة.

ولاستمرار حالة التضامن مع غزة وأهلها في فضاءات التواصل الاجتماعي، عمد رواد المواقع إلى استخدام حِيَل لخداع الخوارزميات، عبر إجراء تغييرات على شكل الكلمات المفتاحية، مثل: مثل: (غزة – الض_فة الغ_ربية – فلس**طين – إبادة). وعقب العدوان "الإسرائيلي" على لبنان، انضمّت كلمات جديدة إلى لائحة الاستهداف والمنع، مثل: (مقـاومة – حزب – جنوب لبنان – الضـاحية). ومن أبرز من تبنّى هذا الأسلوب المبتكر في تغيير شكل الكلمات للحفاظ على حضورها الرقمي، الناشطة الرقمية ليلى عبدو، عبر برنامجها "الوتر الحساس".

أسهم تطور الهواتف الذكية في تعزيز التفاعلات السريعة مع الأحداث عبر وسائل التواصل، سواء عبر تسجيل الإعجاب أو التعليق، لكنها أيضًا سطّحت التفاعل وعملية إنتاج الوعي بالموضوع أو المادة المستهدفة؛ فالمحتوى غالبًا لا يتطلب فهمًا عميقًا للخبر، ولا حتى إدراكًا لحجم التزييف والتزوير الذي يشمل الصوت أو الصورة أو اللغة، وغالبًا ما ينتج عن هذا التفاعل السريع والمجتزأ ما يصح وصفه بـ"الواجب المزيف" تجاه القضايا الإنسانية.

وفي نظام الخوارزميات، لا نحصل نحن مستخدمي الإنترنت على نفس "الخدمة"، فهذه الأنظمة مبنية على عمليات رياضية ومنطقية دقيقة، تعتمد على شكل الكلمات وتناسقها. وعندما تواجه الخوارزمية مدخلاً "مشوّهًا"، تتوقف آليتها، فيتوقف الانتشار. وهكذا، تتحول الخوارزميات إلى أدوات لقمع التضامن الرقمي وممارسة شكل جديد من الإبادة: إبادة الكلمة والمعنى.

ويدرك كثير من العرب اليوم أن منصات التواصل، التي تُدار من الغرب، تنحاز بوضوح للرواية الإسرائيلية، وتسعى إلى خنق الحقيقة التي تنقلها كاميرات الفلسطينيين أو كلمات المتضامنين معهم، سواء في غزة، أو في جنوب لبنان. ولهذا، بات تغيير شكل الكلمات نوعًا من المقاومة الرقمية ضد ذكاء اصطناعي يسعى إلى تشويه لغتنا وحجب صوتنا.

تتطوّر هذه الأساليب اليوم إلى ما هو أبعد من النص المكتوب، إذ بدأ النشطاء بتشويه صوتهم عمدًا عند نطق كلمات مثل "فلسطين" أو "مقاومة"، بهدف تجاوز رصد الخوارزميات. وهذا يعني أن الكلمة نفسها بدأت تختفي من المسموع، في خطوة تعد شكلًا متقدّمًا من الإبادة الرمزية للغة، علينا التنبه لها والتحذير منها، كما في حالة منصات مثل "نبض فلسطين" على إنستغرام.

ولسنا هنا أمام حالة جديدة تمامًا؛ ففي عام 1967، اضطر الفلسطينيون إلى استخدام رموز بديلة عن العلم الفلسطيني، مثل ألوان البطيخ، بعد أن جرم الاحتلال رفع العلم. واليوم، تمارس السياسات نفسها، ولكن بحق الكلمة والصوت، في محاولة لمحو الذاكرة وطمس الحقيقة.

عمل الفنان خالد حوراني بعنوان: "هذه ليست بطيخة"

ويتواصل الضغط لإزاحة المحتوى الفلسطيني عن فضاءات السوشيال ميديا، حتى وصل إلى الأشكال، مثل المثلث الأحمر الدالّ على استهداف المقاومة الفلسطينية لمركبات الموت "الإسرائيلية" التي تتجول في قطاع غزة من أجل إحداث الدمار وقتل المدنيين.

فعندما يُجرّم مجلس النواب في برلين استخدام هذا الشكل الهندسي، يأخذنا التفكير إلى ذهنية التغييب لدى الغرب حيال أي مشهد فلسطيني أو ما يذكّر بفلسطين، فيما يشبه الرهاب والهستيريا التي تطال الأشكال الهندسية الموجودة بشكل يومي في حياتهم. إلا أن المطلوب اليوم "إعدامها" لدلالاتها الرمزية على أمر يخص فلسطين.

السؤال اليوم إلى أين يتجه مفهوم الإبادة الممارَس بشكل علني وممنهج؟ حيث إن ذراعه لا تطال فقط البشر والحجر، بل أيضًا الصوت والصورة.هل سنواجه ضغوطًا أخرى من العالم الموازي الذي يصنعه الغرب؟ هل اختفاء الشكل الحقيقي للكلمة والصوت هو فعل من شأنه استمرار العدوان وحرب الإبادة، ومراهنة على اختفاء الحقيقة بعد زمن؟هل علينا الحذر من غفلتنا عن أشكال إبادة من نوع آخر؟

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد