في أزقة ضيقة محاطة بجدران إسمنتية وأسلاك شائكة، يعيش آلاف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من دون أي صفة قانونية تحميهم من الفقر، أو تكفل لهم كرامة العيش. ورغم مرور 77 عاما على نكبة فلسطين عام 1948، ما زال اللاجئ الفلسطيني في لبنان يعاني من حرمان واسع من حقوقه المدنية والاقتصادية والاجتماعية، في مشهد يطرح تساؤلات جدية حول مدى التزام الدولة اللبنانية بالمواثيق الدولية التي وقعت عليها، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وتزداد أهمية هذا الملف اليوم، في ظل الجدل القائم بشأن إعادة ضبط الوجود الفلسطيني في لبنان، وإعادة قوننته عبر لجنة رسمية مكلفة بدراسة الملف الفلسطيني، مع طرح مقاربات تتعلق بالسلاح داخل المخيمات، في حين يغيب أي حديث جدي عن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين كأولوية.
رغم إعلان لبنان تمسكه بحق العودة ورفض التوطين، إلا أن سياساته تدفع الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية أو العيش في ظروف قانونية ومجتمعية مهينة.
وفي هذا الإطار، أجرى "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" مقابلة مع الحقوقي محمود حنفي، مدير المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان "شاهد"، الذي عرض واقع التهميش القانوني والسياسي الذي يعيشه الفلسطينيون في لبنان، محذرا من تداعيات هذا الحرمان المزمن على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
قال حنفي: إن اللاجئ الفلسطيني في لبنان محروم من مجموعة من الحقوق الأساسية، مشددا على أن "أهم هذه الحقوق على الإطلاق هو الحق في العمل في المهن الحرة، مثل الهندسة والصيدلة، التي تتطلب الانتساب إلى نقابات مهنية لا تسمح للفلسطيني بالانضمام إليها".
وأشار إلى أن الفلسطيني يمنع كذلك من الاستفادة من تقديمات الضمان الاجتماعي المتعلقة بالعمل، ويحرم من التملك بموجب القرار 296 الصادر عام 2001، حتى لو كان العقار صغيرا أو لأغراض شخصية. وأضاف: "يمنع الفلسطيني أيضا من تأسيس الجمعيات والمؤسسات، ويقيد في حريته بالتنقل، حيث تخضع المخيمات التي يسكنها أكثر من 55% من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لإجراءات أمنية وعسكرية صارمة على مداخلها ومخارجها".
وفي ما يخص الهوية القانونية، قال حنفي: إن الفلسطيني في لبنان لا يتمتع بـ"شخصية قانونية" واضحة، موضحا: "هو ليس لاجئا معترفا به قانونيا، ولا يعامل كأجنبي، ولا يمنح صفة المواطن، ما يكرس حالة من الغموض القانوني الدائم".
وتحدث عن مشاريع قوانين قدمت في السابق لتحسين أوضاع اللاجئين، من بينها مشاريع لتعديل قانون التملك، وأخرى ترتبط بالحق في العمل، لكنها بقيت مجمدة في اللجان النيابية، قائلا: "تم تقديم مشاريع من وزراء متعاطفين مع حقوق الفلسطينيين، لكن النقابات واجهتها برفض حاد، مما منع تمريرها".
وأضاف: "حتى المشروع الذي كان يهدف إلى منح الفلسطيني صفة قانونية واضحة لم ينفذ، وتمت إعادة الأموال المرصودة له إلى خزينة الدولة. العائق الأساسي هنا ليس غياب المشاريع، بل غياب الإرادة السياسية لتنفيذها".
وفيما يتعلق بالإطار القانوني والدستوري، قال حنفي: "لبنان شارك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وصادق على العديد من الاتفاقيات الدولية، وهو ملزم بتعديل قوانينه لتنسجم مع تلك الالتزامات. لا يوجد ما يمنع ذلك لا دستوريا ولا قانونيا".
لكن الحجة الدائمة التي تستخدم لمنع إقرار الحقوق، وفق حنفي، هي "الخوف من التوطين والإخلال بالتوازن الطائفي في لبنان"، مؤكدا أن هذا التخوف غير مبرر، ويقول: "عدد اللاجئين الفلسطينيين ليس كبيرا، وهم لا يطالبون بالجنسية أو بالمشاركة السياسية، بل يطالبون بحقوق أساسية، مثل التملك، والعمل، والحصول على أوراق قانونية محترمة".
واختتم حنفي حديثه قائلا: "حرمان الفلسطينيين من حقوقهم لا يخدم أحدا. التفكير العقلاني يقودنا إلى أن استقرار اللاجئ الفلسطيني قانونيا واجتماعيا سيسهم في الاقتصاد اللبناني. الفلسطيني ليس تهديدا أمنيا، بل شريك محتمل في بناء مجتمع أكثر توازنا واستقرارا".
رغم هذا الواقع الصعب، لم يتم منح اللاجئين الفلسطينيين حتى اليوم صفة قانونية واضحة، فلا هم لاجئون معترف بهم ضمن اتفاقية دولية، ولا يعاملون كأجانب وفق قوانين موحدة، ولا كلبنانيين يتمتعون بحقوق المواطنة، ما يجعلهم خارج إطار الحماية القانونية الكاملة، ويمنعهم حتى من الوصول إلى القضاء في كثير من الحالات.
داخل المخيمات المحاصرة بكتل إسمنتية وحواجز عسكرية، يتعذر ترميم البيوت أو تطويرها من دون موافقات أمنية مسبقة، قد ترفض دون تبرير. والنتيجة واقع خانق يدفع نحو العزلة أو الهجرة، في ما يشبه التهجير القسري الصامت.
الخطير في هذا المشهد، أن كل ذلك يناقش في الإطار الأمني فقط، حيث يختزل وجود الفلسطينيين في المخيمات إلى تهديد محتمل، بدل أن ينظر إليهم كسكان محرومين يسعون لحياة كريمة. مقايضة الحقوق بالسلاح، وربط تنظيم حياة المخيمات بمصير "التشكيلات الأمنية" الفصائلية داخلها، يعني تكريس التهميش، وتأبيد حالة الاحتقان.
إن أنسنة واقع المخيمات، والتوقف عن شيطنة مجتمع اللاجئين، ضرورة وطنية وأخلاقية، وليست فقط مسألة إنسانية أو سياسية. المطلوب اليوم هو قانون لبناني خاص ينظم الوجود الفلسطيني، يكفل الحد الأدنى من الحقوق المدنية والمعيشية دون مساس بالتوازن الديمغرافي، كما تفعل دول أخرى تستضيف لاجئين منذ سنوات. أما استمرار الإقصاء في ظل تفاقم الفقر وتراجع خدمات "أونروا"، فهو وصفة مؤكدة لإدامة التوتر والانفصال، بدل بناء شراكة اجتماعية عادلة بين الدولة وسكانها المقيمين على أرضها قسرًا منذ أكثر من سبعة عقود.