يُعدّ التراث الفلسطيني أحد أعمدة الهوية الوطنية، وهو إرث ثقافي متجذّر في وجدان الفلسطينيين، خاصة في ظل محاولات الطمس والتزييف والسرقة التي يتعرض لها من قبل الاحتلال "الإسرائيلي".
ومن أكثر ما يعبر عن هذا التراث هو التطريز خاصة ثوب المرأة المطرز، الذي يسعى الفلسطينيون في شتاتهم الواسع إلى المحافظة عليه واقتنائه وارتدائه دوماً، بالنسبة لهم يعد أحد أبرز رموز التراث والهوية، والذي ما زال حاضراً في وجدان نساء مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ليس كرمز من رموز الهوية، وحسب، بل أيضاً كمصدر رزق وحرفة متوارثة عبر الأجيال.
ورغم كل التحديات، لا تزال النساء الفلسطينيات في المخيمات اللبنانية متمسكات بفن التطريز، ويواظبن على حفظه وتطويره ومشاركته مع الأجيال الجديدة، في معركة يومية ضد النسيان وضد محاولات سرقة التراث.
حكاية بدأت من منخل وخيطان
نسرين خطاب (50 عامًا)، من بلدة صفورية، تسكن أحد المخيمات في لبنان، روت لبوابة اللاجئين الفلسطينيين كيف بدأت مشوارها في التطريز قبل عشرين عاماً، وسط ظروف صعبة وقلة الإمكانيات تقول: "بدأت بدون أي أدوات، استعنت بمنخل شبابيك وخيطان بسيطة، ونقلت رسمة تراثية كانت موجودة في بيتنا. دخلت في هذا المجال للعمل مع الجمعيات لتأمين مصروف لأولادي، خاصة أن لي ابنة من ذوي الاحتياجات الخاصة تتطلب رعاية كبيرة".
وتابعت: "في البداية لم أكن أدرك أنني أحيي تراثاً، كنت أظن أن التطريز مجرد قطبة، لكن بعد البحث والقراءة، فهمت أن ما أفعله هو حماية لهويتنا من السرقة، فبدأت بإقامة ورشات عمل في بيروت لتعريف الناس بالتطريز الفلسطيني، ووجدت إقبالاً كبيراً، خاصة خلال العدوان على غزة، حيث ازداد اهتمام الناس من كل الأعمار، حتى الأطفال في سن الخامسة تعلموا بسرعة"
وتؤمن نسرين أنّ التراث لا يمكن حمايته بالكلمات فقط، بل بالإبرة والخيط، علينا أن نبتكر ونحدّث ما ورثناه ليواكب الحاضر ويصل إلى كل بيت.
من حي الطيرة إلى أعراس الحنًة
أما سناء فواز مناع (مواليد 1971)، وهي من قرية المنشية وتسكن مخيم عين الحلوة جنوبي لبنان، فاختارت أن تجعل من التطريز مهنة وهوية ورسالة.
تقول سناء لبوابة اللاجئين الفلسطينيين:"تعلمت التطريز من جارتي منذ الطفولة، وأحببته بألوانه وغرزه، أنشأت مشروعًا خاصًا بي لتطريز الفساتين التراثية وتأجيرها للنساء في حفلات الحنة، كما خصصت جزءاً من منزلي في حي الطيرة كمشغل للتطريز، وأقمت ورشات تعليمية للفتيات".
وتضيف بثقة: "التطريز ليس حرفة فقط، بل هوية ورسالة علينا إيصالها إلى العالم. هذا الفن هو سلاحنا الناعم ضد محاولات الاندثار والتزوير".
الإعاقة لم تكن عائقاً أمام الإبداع
عليا عزام، لاجئة فلسطينية من قرية حطين، تقيم في مدينة صيدا، ورغم أنها من ذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أنها استطاعت أن تحفر لنفسها مكاناً في عالم الحرف اليدوية والتراث الفلسطيني.
تقول عليا: "تعلمت التطريز في سن مبكرة من إخوتي، بدأت أساعدهم في الطلبات، ثم أتقنته، وأصبحت أصنع مشغولات يدوية تراثية بنفسي، أنشأت زاوية خاصة بي في محل صغير، وحلمي أن أمتلك متجرًا كبيرًا مخصصًا فقط للتراث الفلسطيني".
وتوضح عليا أن التطريز بالنسبة لها لم يكن مجرد هواية بل شغف وارتباط بالأرض، ومقاومة صامتة.
تضيف: "كنت جزءاً من ورشات تعليمية في جمعيات عدة، وعلّمت فتيات كثيرات هذا الفن. شاركت أعمالي في معارض محلية، وكل قطعة تطريز أقدمها هي رواية عن فلسطين".
وتختم حديثها بتحذير واضح: "الاحتلال الإسرائيلي يشنّ حملات ممنهجة لسرقة تراثنا ونسبه إليه. من واجبنا نحن النساء، أن نتمسك بتراثنا، ونعلمه لأبنائنا، لنحمي هويتنا الوطنية من التزوير والنسيان".
في مخيمات الشتات، حيث تكافح المرأة الفلسطينية من أجل الحياة والكرامة، لا يزال خيط التطريز يشدها إلى الوطن، إلى الجذور، إلى القضية، ومن داخل بيوت بسيطة أو مشاغل متواضعة، تولد أعمال فنية تُقاوم النسيان، وتروي للعالم قصة شعب لا ينسى تراثه مهما بعدت به المسافات.