تحقيق: غسان ناصر
 

 منذ التاسع عشر من نيسان / إبريل 2018  تستمر الحملة العسكرية للنظام السوري على مخيم اليرموك (عاصمة الشتات الفلسطيني) ومحيطه، بدعم جوي روسي ومشاركة "فصائل فلسطينية"، تزامناً مع اتساع دائرة المعارك في المخيم والمناطق المجاورة له، ما أسفر عن تدمير كبير في منازل السكان والبنية التحتية ما يشير إلى محو المخيم من الوجود، دون مبالاة طبعاً بعدد الضحايا من المدنيين! وما زاد من المأساة الحاصلة هو تهجير مئات الفلسطينيين من منطقة مخيم اليرموك وجنوب دمشق ضمن اتفاق تسوية مع النظام السوري برعاية روسية .

"بوابة اللاجئين الفلسطينيين" تحدثت مع عدد من المفكرين والكتّاب الفلسطينيين، المفكر والكاتب سلامة كيلة، والكاتب والمحلل السياسي ماجد كيالي،  والمفكر والشاعر الدكتور أحمد برقاوي، الناشط والفنان التشكيلي عماد رشدان، والمفكر و الدكتور خالد الحروب، في وقت رفض ثلاثة من أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وعدد من قادة الفصائل الفلسطينية في دمشق وبيروت ورام الله المحتلة، المشاركة في هذا التحقيق، دون إبداء أية أسباب، لا بل إن بعض أعضاء تنفيذية (م.ت.ف) تجاهلت الرد علينا تماماً، وليس في هذا غرابة إذا ما عرفنا أن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ (23)، الذي اختتم أعماله في مقر الرئاسة في رام الله، لم يأت اطلاقاً في الجلسة الافتتاحية ولا خلال أيام المؤتمر على ذكر محنة مخيم اليرموك ولا حتى الإشارة إلى معاناة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا المتواصلة منذ خمس سنوات، وهو ما يشير إلى تخلي منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وكل قيادات الفصائل الفلسطينية عن دورها ومهامها الوطنية تجاه اللاجئين الفلسطينيين السوريين والمخيمات الفلسطينية في سوريا!..

 

المفكر والكاتب سلامة كيلة (المقيم في العاصمة الأردنية عمّان)  يقول: اكتمل تدمير مخيم اليرموك، ويجري ترحيل (جبهة النصرة/تحرير الشام) إلى إدلب دون أن يُقتل منها أحد. كما سيجري نقل (داعش) الى منطقة أخرى ودون أن يُقتل منها أحد، رغم أن دورها كان الحرب على كتائب مسلحة موجودة جنوب دمشق وليس قتال النظام.

كيلة: نظام الممانعة والمقاومة ينفذ "وصية" شارون ..

وأضاف المفكر الفلسطيني: هذا اتفاق سابق على تدمير المخيم، لكن كان وجود هذين التنظيمين هو الشماعة لتدميره، بالتالي ليست الحرب ضد الإرهاب هي التي فرضت تدمير المخيم بل كان الإرهاب وسيلة لتدميره. أي أن الهدف بالأساس هو تدمير المخيم وليس كل هذا الهراء عن محاربة الإرهاب المصنّع من قبل النظام وغيره. فأصلاً إن من أدخل (النصرة) ثم (داعش) إلى المخيم هو النظام، حيث أُدخلا والمخيم محاصر الى حدّ أن سكانه كانوا يموتون جوعاً، ولم يكن من منفذ لدخول الهواء، لهذا يمكن القول بأن الهدف هو المخيم ذاته، الذي يجب أن ينتهي وأن يشرّد اللاجئين الفلسطينيين من جديد، وهذه المرة بعيداً عن فلسطين لكي لا تبقى الدولة الصهيونية منزعجة من حق العودة. بالتالي فإن الأمر يتعلق بتنفيذ "وصية" شارون الذي هدد المخيم بيوم أسود. لكن "الجميل" أن نظام الممانعة والمقاومة هو من نفّذ هذه الوصية، بعد أن قام بتدمير معظم المخيمات الأخرى، من مخيم درعا إلى الرمل الجنوبي في اللاذقية إلى خان الشيح ومخيم حمص وغيرها. الحرب على المخيم كانت تنفيذاً لوصية صهيونية، خصوصاً وأنه عاصمة الشتات الفلسطيني.

كيالي: رسائل إلى "الأذكياء" و"الممانعين والمقاومين" ..

فيما قال الكاتب والمحلل السياسي ماجد كيالي: كلنا شاهد كيف تم قصف مخيم اليرموك وأحياء التقدم والتضامن والحجر الأسود بطريقة وحشية ومدمرة، علماً أن المنطقة ساقطة عسكرياً من سنوات وهي اخضعت لحصار مطبق منذ أواخر 2012، أي منذ خمسة أعوام.. سيقول بعض "الأذكياء" و"الممانعون والمقاومون" أن السبب هو (داعش).. والسؤال هنا من الذي أدخل (داعش) إلى المخيم المحاصر؟ من الذي يؤمن له التموين والسلاح والذخيرة والماذل؟ ولماذا لم تقصف قوافل (داعش) التي كانت تتحرك بين باديتي العراق والشام بحريّة ببرميل واحد؟ ولماذا يجب تدمير المخيم من أجل بضع عشرات أو مئات (الدواعش)؟ هل يحق لإسرائيل مثلاً أن تدمر مخيماً أو منطقة -لاسمح الله- بحجة أنها تحارب "الإرهاب"؟ وماذا ستقولون لإسرائيل إن فعلت ذلك؟

"الأذكياء" و"الممانعون والمقاومون" الذين لم يروا كيف شرد النظام الملايين من شعبه وكيف قتل بالبراميل المتفجرة والصواريخ مئات الألوف وقتل تحت التعذيب الألوف سيقولون ما مصلحة النظام بإدخال (داعش)؟ الجواب مصلحته في تبرير سياسات التشريد او القصف الوحشي وتدمير البيوت.. مصلحته في تفريغ تلك المناطق من سكانها ومحاصرتها وجعلها حقل رماية له، لأنه بذلك يتتخفّف من عبء السيطرة عليها بقوات أمنية كبيرة، إذ المناطق المحاصرة لا تحتاج إلى ذلك.. فمخيم اليرموك وما حوله كان يقطنه حوالي مليون سوريين وفلسطينيين أما تحويله إلى منطقة محاصرة وحقل رماية فقد شرد معظم سكانه، وبقي بضعة عشرات ألوف..

(داعش) مجرد شماعة وذريعة لكل الوساخات، وهو مخلوق هجين، وهو بمثابة شركة متعددة الجنسيات والتوظيفات، لذا (داعش) قاتل الجيش الحر ونكل بالسورين في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، أكثر بكثير مما قاتل النظام.

من الذي دمر المخيمات الفلسطينية؟ من الذي يدمر الشاهد على النكبة وعلى حق اللاجئين؟

مخيمي تل الزعتر وضبيه في بيروت تم تدميرهما على يد الكتائب بعد الدخول السوري إلى لبنان وبتسهيل منه (1976).

مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة في بيروت تعرضت لحصار وحشي وتدمير مبرمج في الأعوام (1985-1988) بواسطة حركة "أمل" الطائفية الحليفة للنظام السوري وبتغطية منه.

مخيم نهر البارد جرى تدميره وتشريد سكانه (2007) بحجة وجود حركة "فتح الإسلام"، التي وجدت بواسطة النظام السوري، وبعد التدمير اختفى زعيم هذه الحركة شاكر العبسي الذي كان أصلاً معتقلاً في سجون النظام وافرج عنه.. وذهب إلى الشمال اللبناني وأسس حركته التي أدت إلى تدمير المخيم.

منذ بداية الصراع السوري خير النظام (بمعية الفصائل التابعة له) الفلسطينيين بين الوقوف معه ضد الشعب السوري أو التعرض للحصار والتدمير وأول ما استهدف مخيمي اللاجئين في اللاذقية وفي درعا.. وحاول إنشاء جماعات مسلحة تابعة له بمعية بعض الفصائل المعروفة بموالاتها له.. وسكوت الأخرى.. وهو استهدف مخيم اليرموك بالحصار والتدمير والتشريد لأنه استعصى عليه، وهو ما تجلى واضحاً في هبة حزيران (6/5/2011) لدى تشييع شهداء مسيرة "العودة" التي أراد النظام تسخيرها لتبييض صورته، وذهب ضحيتها على الحدود حوالي 21 شهيداً من الشباب الفلسطينيين.. كما تجلى ذلك في تحول المخيم إلى بيئة آمنة للسوريين الذين هجرهم النظام من المناطق الأخرى.. في أواسط العام 2012، نتيجة ذلك بات المخيم يتعرض للقضف وضمنه القصف بالطيران في 17/12/2012، ثم تعرض لهجوم جماعات مسلحة ادعت أنها من "الجيش الحر"، وتبين فيما بعد أن أغلبها من التابعية لأجهزة الأمن، هكذا فرض الحصار على المخيم، وما حوله..

النظام السوري أكثر نظام استغل قضية فلسطين ووظفها لنهب موارد شعبه وتكريس شرعيته وابتزاز الأنظمة الأخرى، وأكثر نظام نكل بالفلسطينيين وعبث بمنظمة التحرير واستهدف قيادتها..

برقاوي: الفلسطيني والمخيم والبقاء في الأمل..
 المفكر والشاعر الدكتور أحمد برقاوي (ابن مخيم اليرموك، المقيم حالياً بدبي)، شاء أن يكتب عن "رمزية المخيم والفلسطيني" في الزمن السوري العاصف بشاعريته المُرْهَفةُ، فقال: يخرج الفلسطيني عام 1948 من وطنه لاجئاً إلى بلدان الجوار التي صارت ذات حدود تشير إلى صورة الدولة، فيسكن الخيمة المؤقتة أملاً بالعودة، ومكان الخيم هو المخيم. والخيمة بيت البدوي الذي لا يستقر على حال، يحملها معه أينما رحل .
يطول انتظار الفلسطيني للوقت الذي يقرع فيه جرس العودة، فتحمله شروط الحياة على الانتقال من الخيمة التي تعبث فيها الأرياح إلى بيت من طين وحجر ثابت في المكان. البيوت الثابتة  شكلت مكاناً يأخذ شكل المدن الصغيرة بكل أنماط حياتها، لكن المدن الصغيرة هذه، والتي اتسعت مع الأيام، احتفظت باسم المخيم .
الكلمة لم تعد تتطابق مع الشيء، وتدل على شيء، هو في الواقع، لا يتطابق مع معنى الكلمة .
لكن وعي الفلسطيني بالمكان ظل وعياً بالمخيم، فاحتفظ، بفضل وعيه بالمكان المؤقت بروح المكان - المخيم، أي بالبيت العابر بوصفه منصة انتظار العودة إلى بيته الموجود في بلدة معلومة الإسم، ومدينة تعرفها الذاكرة وكتب التاريخ: بيسان طبريا، يافا، إلخ ...
يصبح مكان الإنتظار هذا حميماً لأنه مكان انتظار، ويضج  بأسماء المكان الدائم .
فمخيم اليرموك صار فلسطين الصغرى،هنا يافا، هنا عكا، هنا صفد، هنا لوبيا، هنا، هنا، هنا، هنا تسكن فلسطين بكل الحنين القار في نفوس أبنائها. فيُخلق الترابط بين فلسطين الكبرى التي اغتُصبت وفلسطين الصغرى المنتظرة. ترابط يؤكد هوية الإنتماء ويحافظ عليها من البـِلى.
يبني الآخر، من كل أنواع الآخر الذي يناصب الفلسطيني العداء، علاقة كارهة بالمخيم. ويضمر شعوراً بنفيه. فالمخيم روح التمرد والبقاء في الأمل.

روح الفلسطيني في المخيم تنتقل معه أينما حل، بل وتسري في أهل البلدان، فتُغضب هذه الروح النفوس الآسنة، فتذهب إلى كل ما من شأنه محو المخيم. من البقعة إلى تل الزعتر، إلى الجلزون  إلى اليرموك وما بينهم يسطر التاريخ تراجيديا بطلها المخيم، غير إن موت البطل في هذه التراجيديا لن يكون إلا بولادة البطل في تلك الأمكنة من فلسطين حيث حيث تتوحد الأسماء بأشيائها الحقة.

رشدان: اليرموك ممرنا لوطن عربي ديمقراطي علماني ..

بدوره قال  الناشط والفنان التشكيلي عماد رشدان (ابن المخيم، المقيم حالياً بالسويد):

لطالما لعب أبناء مخيم اليرموك دوراً مبادراً في تشكيل الهوية والثقافة الوطنية الفلسطينية، وفي الدفاع عنها وعن الثورة والشعب الفلسطيني في ساحات النضال المختلفة.

ولطالما تعرض المخيم لمحاولات التدمير بالتعدي على نسيجه المعماري بفرض النمو العشوائي كنمط عليه وعلى نسيجه الاجتماعي كذلك، في ظل تساوق فصائل فلسطينية مع محاولات التدمير هذه. لكن دوماً كان في اليرموك من يتصدى للدفاع عنه ويعمل لتعزيز الحيوية الثقافية والسياسية فيه.

قد يكون المخيم مكان طارئ وضع على هامش المدينة، لكن الفلسطينيين جعلوا منه ممراً لحلم العودة وممراً لوطن عربي ديمقراطي علماني وناهض قادر على التصدي للمشروع الصهيوني العنصري.

يأتي تدمير مخيم اليرموك اليوم في سياق قتل الشاهد على النكبة والمحاولات الحثيثة لتصفية حق العودة، اليوم تكبر المأساة ويزداد الخذلان من البنى السياسية الفلسطينية التي انكشف مدى هشاشتها وتخاذلها، واتضح أن الوقت قد حان لدفنها تحت أنقاض اليرموك.

 لكن وكما حمل أبناء اليرموك فلسطين في قلوبهم سيحملون مخيمهم إلى كل عواصم الدنيا، ويعلوا صوتهم في وجه القتلة المجرمين والمتخاذلين والمتاجرين بقضيتهم وستكون لهم مبادراتهم التي تقربهم كل يوم خطوة من حلمهم الفلسطيني.

الحروب: اليوم ينسدل الحزن على المخيم ..

أما المفكر والأكاديمي الدكتور خالد الحروب، فقال: خصبة هذه الذاكرة الفلسطينية، يسيل فيها الزمن، يرفض الانتظام ويغضب عابثاً، فيظل الماضي حاضراً، ويتمرد الحاضر على زمن يريد أن يسجنه في شلل اللحظة، يتعبد الحاضر الفلسطيني في محراب العودة والتوق إلى زمن بريء كتب فيه المحراث تحت الشمس قصة فلسطين العادية وناسها العاديين يحييون حياة عادية. هذا ما يتندى في وجداني عندما أسمع الآن وكلما كنت أسمع اسم "مخيم اليرموك".

لم أزره مع الأسف ولا مرة، لكني كنت أتخيله، أتمثله، وأبنيه أمام عيني.

أقرؤه في قصص من عاشوه وأحبوه، أسير في شوارعه وأزقته المرصوفة في كل النصوص والروايات والمحكيات، واهتف في جنازات الشهداء الأنقياء الذين عبروا هواءه للمرة الأخيرة قبل أن يترجلوا من على أكتاف من أحبوهم.

كأني كنت أعرف المخيم مخبوءًا في ذلك الوعي المخيماتي الغامض الذي التحم بشكل ما في هوية الفلسطيني.

أراه شقيقاً لـ "مخيم الوحدات" في عمان الذي أعرفه عن قرب مجاوراً لـ "الاشرفية" وليس بعيداً عن "حي نزال" و"رأس العين". كأنني أتناسخه في "مخيم البقعة" حيث سكنت خديجة عمتي المُتعبة الباكية سنوات اللجوء وما قبل الموت.

أو اُهربه إلى حدود القدس مجاوراً لمخيم "شعفاط" حيث سكنت وما زالت تسكن عمتي الثانية رابعة.

أم لعل اليرموك قبل كل شيء ومن دون أن أدرى هو ذاته "مخيم الدهيشة" في قلب بيت لحم حيث حضنتني أمي وليدها الثالث، لتدفن بعد شهرين وليدها الثاني.

لغة المخيمات هي إذن، فيها أسرار التمرد على الزمن الأسود وإرادة تدوير الحياة والكون إلى ما كان قد سبق.

"مخيم اليرموك" في وعينا المخيماتي المُتعين والمُتخيل، هو توقيعنا الشامي الجميل، هو قاسيون الشمال الشرقي لفلسطين. نجمة الرفض وركل الأقدار ومحايثة المستحيل. اليوم ينسدل الحزن على المخيم، لأن الذين دمروه تسافلوا إلى أبعد الحدود، خانوه بقنابلهم التي أرادت  أن تمحي التوقيع الكبير، كما كانوا قد خانوا "تل الزعتر" يوماً ما. دمنا على أيديهم، وأحذية الشهداء الذين قتلوا في معركة ليست معركتهم، وبرصاص "شقيق عروبتهم" تصفق وجوههم الكالحة ... وستظل تصفقها إلى أن يخضع الزمن لإرادة المخيم وناسه وروحه المعلقة بالشمس.

خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد