الوليد يحيى
تحلّ في حزيران في كلّ عام، ذكرتان أليمتان على الفلسطينيين والعرب، تتشابهان من حيث ديمومة آثارهما، وغياب من يزيل تلك الآثار المتفاقمة بتسارع، يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، رغم الفارق الجغرافي، وتباين الزمن.
"نكسة" الخامس من حزيران عام 1967، وما أراد خلالها العدو الصهيوني من استكمال ما بدأه في نكبة عام 1948، من تهجير لأصحاب الأرض الفلسطينية وقضمه لها، تابعه في ذات التاريخ بغزوه للبنان عام 1982، ليمدد النكسة إلى أبناء فلسطين في الشتات، حيث أنّ من مستلزمات وجوده ملاحقة الفلسطينيين في وطنهم وفي لجوئهم، كنهج ثابت للكيان المحتل.
تطابق التاريخ، في الشهر، لربّما يكون نتاج إرادة ذاتويّة مقصودة، أو لربّما تواطؤ صُدف التاريخ الأسود مع صانعيه، لكن في كلتا الحالتين، قد لا تختلف من حيث الوقع ودقّته في الدلالة اللغوية.
ففي السادس من حزيران عام 1982، انتكس واقع المخيّمات الفلسطينية في لبنان، بعد أن نجت من المحي، انتكاسة أو نكسة، أقالتها عن دورها، كرّستها في إسمنتها، حجّمتها في تأثيرها، وشتت مناضليها في مشهد نكبويّ كبير.
للغزو أهدافٌ أخرى
بين الهدف المُعلن، وما أشارت إليه الوقائع، فوارق تبدد أكذوبة "رد الخطر" التي أطلقها الاحتلال الصهيوني لتبرير عمليّة "السلام للجليل" التي بدأها العدو يوم السادس من حزيران عام 1982، وكان مُعلنَها إبعادُ " منظّمة التحرير الفلسطينية" عن الحدود الشماليّة لفلسطين المحتلّة لمسافة 40 كلم، لكن سرعان ما اتضح أنّ الهدف هو اجتياح كل لبنان بهدف اجتثاث المخيّمات الفلسطينية بكل ما تختزنه وتولّده من حالات نضالية وحقوقية للشعب الفلسطيني.
وبذات أسلوب احتلاله لفلسطين، الذي اعتمد على قوّة التدمير والمجزرة، بدأ العدو قصفه التدميري على المخيّمات، بهدف طمسها بعد أن نجح عام 1974 بمحي مخيّم النبطيّة في جنوب لبنان، وتحويله أثراً بعد عين ماديّاً ومعنويّاً، لم تقم له قائمة بعدها حتّى يومنا هذا.
يشير كثر ممن عايشوا قصف المخيّمات خلال الغزو، أنّ الفلسطيني بكافة تصنيفاته، وليس فقط الفدائيّين، كانوا المستهدفين من العمليّة الصهيونية، ولعل ما حدث في مخيّم عين الحلوة عقب دخول قوات الغزو إلى صيدا، يبرهن على الهدف، حيث دُمّر المخيّم واعتقل معظم رجاله وشبّانه في معتقل أنصار، وكذلك الحال كان في مخيّم المية ومية المجاور، والتي دفعت قوّات الاحتلال بعناصر من اليمين الانعزالي اللبناني، لتولي مهمّة حرق المخيّم ومحوه.
طريقة الإنهاء بالمجزرة، والتي كانت أفقع صورها مجزرة صبرا وشاتيلا، عقب دخول الاحتلال الى بيروت، كشفت باعترافات الجنرال عاموس جلعاد مؤخرّاً في صحيفة " يديعوت أحرنوت" العبريّة، حيث كان مُلحقاً بجهاز الاستخبارات العسكريّة " أمان" حينها، أنّ الجيش الاسرائيلي، هو صاحب فكرة دخول قوات اليمين المسيحي إلى المخيّم، بغرض إباده سكّانه، ما يدلل على نوايا محو المخيّمات، إلّا أنّ ذلك باء بالفشل، لكنّ الغزو خلّف نكسةً مزمنة لا تزال ماثلة حتّى يومنا هذا.
النكسة المزمنة وتبعاتها المستمرة
تمتّع الشتات الفلسطيني في لبنان، في مرحلة ما قبل الغزو الصهيوني، بحالة اعتباريّة على المستوى الفلسطيني والعربي والدولي، استطاع انتزاعها بعد دخول قوّات الثورة إلى بيروت عقب خروجها من الأردن إثر أحداث أيلول الأسود عام 1970، وتمتّعها بمخرجات اتفاق القاهرة التي صيغ بموافقة معظم الاطراف اللبنانية الفاعلة، ورُسّمَ بموجبه الوجود الفلسطيني في لبنان، وأعطى لكافّة أشكاله شرعيّة محليّة.
فصارت المخيّمات الفلسطينية، مراكز إنتاج للطاقات الفدائيّة والثقافيّة والسياسية، جعلتها تكتسب فاعليّة كبيرة ومؤثرة على كافة الصعد في لبنان، وامتدّ ليكون الفلسطيني أحد أهم محركات السياسية والاقتصاد والثقافة في البلد الصغير.
حالةٌ نهضويّة، كان لابد لها أن تؤرّق الكيان الصهيوني، الذي يشكل له الشتات الفلسطيني أهم عوامل أزمته الوجوديّة، فتقاطع ذلك مع اعتبارات الأطراف المسيحيّة اللبنانية التي اعتبرت مدفوعة بشوفينية غير مبررة هي الأخرى في الفلسطيني وحالته، خطراً على وجودها في لبنان،لاعتبارات تتعلّق بموازين القوى الداخليّة " مذهبيّاً وسكانيّاً" وصراعها مع قوى اليسار الذي شكّل المسلمون اللبنانيون غالب قاعدته الشعبيّة.
وبعد جولات الحرب الأهليّة التي بدأت عام 1975 و استنزاف الأطراف اللبنانية، ومعهم الفلسطينيين، بدأ الغزو الصهيوني عام 1982، ليُجهز على ما تبقّى من حالة فلسطينية، انتكست مع حصار بيروت، وخروج الفدائيين الفلسطينيين من لبنان بمشهد تريحل اعتاده الفسطينيون منذ نكبة العام 1948، وبدأت نتائج تظهر تباعاً.
تعرّضت المخيّمات عقب خروج الفدائيين، إلى موجة من التهجير والتجزير من الجنوب الى الشمال، اتخذ بعضها شكل الحرب المنظمّة التي عُرفت بحرب المخيّمات ( 1985- 1988) والتي يُسميها بعض الفلسطينيين بحرب الإزالة.
فقد الفلسطينيون، مميزات اتفاق القاهرة الذي ألغاه المجلس النيابي اللبناني عام 1987، وأعيد تحديد العلاقة حرفيّاً، بخضوع من بقي من الفلسطينيين للدولة اللبنانية، وانكافئهم في مخيّماتهم، ونظم العلاقة معهم أمنيّاً، فبدأ في هذا السياق العمل بموجب مذكّرة إداريّة صادرة عن الأمن العام اللبناني، تصنّف فيه اللاجئين الفلسطينيين بين مسجلّين في وكالة " الأونروا"، أي لاجئي عام 1948، وسواهم الذين باتوا حتى الآن بلا أيّ إعتباريّة لدى الدولة اللبنانية قانونيا وحقوقيّاً وإنسانيّاً.
ولم يحظ الفلسطينيون، في خضم التسوية " اتفاق الطائف" اللبنانية اللبنانية التي أنهت الحرب الأهليّة، بأي مكتسب ولم يكونوا طرفاً فيها، رغم تخندقهم خلال الحرب مع الأطراف " الوطنيّة اللبنانية" فتجاهلهم الجميع، إلّا من قرار للحكومة اللبنانية سنة 1991 عقب الاتفاق، بفتح حوار حول العلاقات الفلسطينية اللبنانية يتضمّن الحقوق الاجتماعيّة للاجئين، إلّا أنّه قد أغلق منذ حينها وحتّى وقتنا هذا.
كما أفرزت نكسة المخيّمات اللبنانية، إثر الغزو الصهيوني الممهدات الأساسيّة لاتفاق" اوسلو" سنة 1993، الذي وصفه الكثير من الفلسطينيين بـ"اتفاق الهزيمة" ، وجرى رفضه من قبل لاجئي لبنان، وعبّروا عن ذلك برفع الرايات السوداء فوق منازلهم، لعدم تضمّنه حلّاً ملموساً لقضيتهم.
النكسة الكبيرة، حفّزت شهيّة الكثير من الأطراف على تقديم مقترحات لانهاء مسألة اللاجئين في لبنان، عقب انتهاء الحرب الأهلية، وتوقيع اتفاق اوسلو عام 1993، وكان أبرز المُقترحين، وزير الخارجيّة اللبنانية فارس بويز ، بتأثير من الأطراف اليمينية وبتشجيع صهيوني، ونصّ المُقترح، على أن يتوجه 20% من اللاجئين في لبنان إلى مناطق الحكم الذاتي في الضفّة الغربيّة، ويعاد توطين 25% في دول متعددة في الشرق الأوسط، وأن تتولى الدول التي تجتاج إلى عمالة مثل أميركا وكندا ودول كثيرة أخرى، توطين البقيّة.
وبعد مضي نحو 36 عاماً على نكسة المخيّمات، التي حلّت إثر الغزو الصهيوني للبنان، لاتزال آثار تلك النكسة تسكن في جدران المخيّمات وأرواح أبنائها، وتتفاقم تبعاتها بتسارع مخيف، فالحال هو انحسار كتلة بشريّة أفقدتها النكسة قدرتها على الفاعليّة المُثمرة، وجرّدتها من أدواتها واعتبارياتها، وحبستها في كانتونات اسمنتية مجرّدة من الحقوق المدنيّة، ومن مقومات العيش الإنسانيّة، فإلى متى تستمر هذه النكسة؟.