قصف وغبار وشوارع غزة فارغة، لا أحد سوى العم سمير منصور صاحب المكتبة التي تحمل اسمه، يحمل مفاتيح مكتبته ويركض في شوارع المدينة، وهو يفكر بمصير الإرث الثقافي الذي حاول بناءه على مدار عشرين عاماً.
أنكر منصور، جميع احتمالات الموت المفتوح من سماء غزة، وركض نحو مكتبته بعد أن قرأ في شريط الأخبار العاجلة يوم 18 أيّار/ مايو، عن تهديد محتمل لبناء كحيل الذي تقع فيه المكتبة. و لم يؤلمه خبر القصف، بل ما آلمه أنه وصل في اللحظة التي تعرضت فيها المكتبة لأول استهداف، ليرى بعيونه البناء وهو يترنح بهدوء، مستعداً لسقوطه المدوي، ليصل الاستهداف الثاني للبناء، ويرى مكتبته وهي تذوب مرة واحدة تحت كوم الغبار.
لم تكن مجرد مكتبة لبيع الكتب فقط، بل كانت مجال ثقافي حيوي في القطاع، فهي كانت تحرص على تبني الكتاب الشباب من خلال نشر أعمالهم
شهد العم سمير منصور موت مكتبته، ورأى كيف انفصلت أجزاءها وتناثرت كتبها وتحولت في لحظة إلى صفحات ممزقة، في مشهد تدمير كلّي، ليشعر حينها بانتهاء كل شيء، حسبما عبّر في حديث مع "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" وقال "إنّه قد عرف لحظتها معنى الألم، و عرف معنى أن تخسر كل ما عرفته وأحببته مرة واحدة ودون أي إنذار، والمؤلم أكثر أنك لا تمتلك الوقت لإنقاذ أي شيء"، فحمل المفاتيح وأعادها إلى جيوبه وهو مؤمن أن المكتبة سوف تعود، حسبما أضاف.
وحول المكتبة، أكّد العم سمير منصور لـ "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" أنها في ظل ظروف الحصار، لم تكن مجرد مكتبة لبيع الكتب فقط، بل كانت مجال ثقافي حيوي في القطاع، فهي كانت تحرص على تبني الكتاب الشباب من خلال نشر أعمالهم، و تحرص على الفعاليات الثقافية التي تُعرّف القراء على الكتب والكتابة، وتضمن مشاريعهم وتعرفهم على الحياة الثقافية في العالم.
فالمكتبة كانت بمثابة نافذة غزة الثقافية إلى العالم، بحسب منصور، حيث استطاعت خلال السنوات الماضية، تأمين الكتب من مختلف دور النشر من لبنان والأردن ومصر، لتغني الواقع الفلسطيني في غزة بالكتب المتنوعة التي يبحث عنها المثقف في القطاع المُحاصر.
كما كانت تحرص على التنوع في ظل ظروف الحصار، من ناحية شمولها لمختلف انواع الكتب، من كتب الاطفال حتى كتب الدراسات العليا، لتغني المكتبة الفلسطينية بجميع مجالات الأدب والصحة والثقافية والمجتمع والتاريخ، وبالتالي خسارتها كانت خسارة كبيرة للقطاع الثقافي في غزة.
المستهدف ليس المكتبة إنّما الثقافة في فلسطين وكل مساحة للمعرفة هدفاً للاحتلال
وعن طبيعية الاستهداف، أكد العم سمير منصور، أنّ المستهدف ليس هو تحديداً، وإنّما الثقافة بشكل عام هي المستهدفة في فلسطين، فكل مركز ثقافي أو مساحة للمعرفة، تقع ضمن أهداف الاحتلال الذي يسعى من خلالها إلى طمس ملامح البحث والاكتشاف عن صيغ فهم الواقع، وفهم الهوية الفلسطينية، وتاريخ فلسطين.
كما يحرص هذا الاحتلال، على تضيق الخناق على جميع الأصعدة التي يسعى من خلالها الفلسطيني إلى إغناء تراثه وفهمه، وما يعزز ثقافته وإدراكه، فالاستهداف لم يكن لم يكن لشخصية سمير منصور، ولكن كان للدور الذي تلعبه مكتبته، حسبما أضاف في حديثه.
ولادة جديدة للمكتبّة في حي الشيخ جرّاح
وعلى سبيل التضامن وتحدّي محاولات الاحتلال طمس المعالم الثقافية لغزّة، أُفتُتِحت يوم 19 أيار/ مايو، مكتبة سمير منصور، في حي الشيخ جراح المهدد بالتهجير في القدس المحتلّة، وتضم الكتب التي كان قد نشرتها المكتبة قبل تدميرها في قطاع غزّة، إضافة إلى كتب تبرع بها أهالي الحي لتضم المكتبة بذلك مجموعة كتب لمجموعة من الكاتب العرب والفلسطينين، في رسالة تضامن عبر فيها أهلي حي الشيخ جراح عن وحده المصير والطريق.
وتمتد مضامين تلك الرسالة، إلى التأكيد على أنّ غزة هي جزء لا يتجزأ من فلسطين، وأنه طالما تم تدمير المكتبة في غزة، فهي هنا في القدس تقوم بدورها الثقافي الكامل لنشر الثقافة بكل أبعادها، حسبما عبّرت الناشطة المقدسيّة منى الكرد خلال افتتاح المكتبة في الشيخ جرّاح، وقالت إنّ في ذلك رسالة مفتوح للاحتلال، بأنّه ممارساته لن تتمكّن من إيقاف الحياة الفلسطينية.
وطالما كنا بهذه الروح فلن توقفنا غطرسة الاحتلال
كما وجّه، العم سمير منصور عبر "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" تحيّاته إلى حي الشيخ جراح، معبراً عن كامل تضامنه مع الحي المقدسي، وعن عمق إحساسه برسالة التضامن التي نظمها أهالي الحي، مشيراً إلى أنّه يشعر وكأن مكتبته أفتحت من جديد، وأنها مازالت على قيد الحياة، "وطالما كنا بهذه الروح فلن توقفنا غطرسة الاحتلال".
وعن مستقبل المكتبة، أكد العم منصور، إنّه مفتوح على جميع الاحتمالات، وخصوصاً في ظل الجمود من قبل الجهات الرسمية الفلسطينية، و التي اكتفت بالدعم المعنوي للمكتبة دون أي خطوات على الأرض.
ولكن من جهة أخرى، أكّد منصور، أن المكتبة سوف تعود ضمن حملات التضامن التي أعلن عنها اتحاد الناشرين العرب، الذين بدؤوا بجمع الكتب للمكتبة لتدعيم عودتها من جديد، إضافة إلى الاستاذة بذور القاسمي رئيسة اتحاد الناشرين الدولي، التي تعهدت بمساعدة المكتبة من خلال الدعم الكامل.
لم تنته قصة مكتبة سمير منصور هنا، اذ يقول صاحبها "الحكاية مستمرة، مازلت أحمل مفاتيح مكتبتي معي وسأعود إليها، ولكن لن أنسى لحظة القصف التي رأيتها، ومهما استمرت الحكاية، فطالما هناك أيدي فلسطينية تكتب وعيون تقرأ فلن تنتهي أبداً."