بدءاً من السادس من شباط/ فبراير 2023 وقت وقوع الزلزال في جنوبي تركيا وشمالي سوريا، تجاوز عدد الضحايا 37 ألف شخص حتى لحظة إعداد هذا النداء، وما يزال هذا العدد مرشحاً للازدياد في ظل وجود عشرات الآلاف من الجرحى، والضغط الهائل على منظومات الخدمات الطبية والإسعاف والطوارئ، إلى جانب تشريد حوالي 15 مليون إنسان في سوريا وتركيا، وطالت أضراره أكثر من 20 مليون إنسان من سكان تلك المنطقة.
وقع الزلزال جاء أكثر ثقلاً على تلك المناطق المهمشة، التي طحنتها الحرب وتداعياتها في السنوات الماضية، وعلى اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون كارثة جديدة و تشرداً ثانياً أو ثالثاً.
أكثر من 7 مليون لاجئ فلسطيني وسوري موجودين في منطقة الشمال السوري والجنوب التركي أصابتهم تداعيات هذه الكارثة، التي طالت أيضاً تجمعات ومخيمات للاجئين تعيش أصلاً ظروفاً غاية في السوء و الاستعصاء ويفتقد أهلها لأدنى مقومات الحياة.
إن مشاعر التضامن الإنساني بين الشعوب ومع ضحايا الكارثة، وتلك المناشدات المستمرة من المنكوبين بالزلزال، ونداءات المؤسسات الدولية والإغاثية، لم تكن كافية لإطلاق تحرك دولي جاد للإنقاذ والإغاثة، و الحقائق المُرّة التي نقف أمامها اليوم بعد مرور أكثر من 8 أيام على الكارثة، تشير إلى أن عمليات الإنقاذ لمن هم تحت الركام قد فات أوانها تقريباً، وأن عدداً غير يسير ممن قتلوا تحت الأنقاض قد خسرناهم بفعل تأخر وصول فرق الإنقاذ إليهم خصوصاً في مناطق الشمال السوري.
المرض والبرد والجوع هو ما ينتظر ملايين من البشر الذين فقدوا مأواهم ما لم يحدث تحرك عاجل لأجل إنقاذهم و إمدادهم بما يحتاجونه على وجه السرعة، بدءاً من تلك الاحتياجات الأكثر أساسية التي ما يزالون يفتقدونها، ووصولاً لاحتياجات أخرى ملحة ستكون مصيرية في تحديد فرص نجاتهم في قادم الأيام.
ورغم تجاوز المأساة للحدود والتقسيمات، يتعرض اللاجئون لتهديد إضافي يتمثل في تصاعد لأشكال متعددة من التحريض العنصري ضدهم، ومحاولات الاستثمار السياسي في المأساة، وتعقيدات توضع في وجه إغاثتهم، ويبدو هناك جنوح للتهرب من المسؤوليات بشأنهم.
هناك نافذة فرصة لتستعيد البشرية شيئاً من مفهوم الإنسانية، و لتستعيد شعوب هذه المنطقة الأمل في مستقبل أفضل، هذا كله موضع للاختبار حيث توجد أرواح الملايين على المحك، وحيث نقف جميعاً أمام اختبار يتعلق بوجود هؤلاء البشر وحياتهم، لأجل الحق في الحياة نطلق هذا النداء لتحمل المسؤولية وتوفير فرص النجاة للاجئين ولعموم المنكوبين في هذه الكارثة.
اللاجئون وأوضاعهم في المنطقة المنكوبة
المناطق العشرة التي ضربها الزلزال في تركيا تعتبر من الأكثر اكتظاظاً باللاجئين في العالم، حيث يوجد فيها 1.7 مليون لاجئ من سوريا، ويبلغ معدلهم نسبة إلى بقية السكان من 10-20 بالمئة في معظم المحافظات العشرة، يعيش معظمهم في ظروف اقتصادية سيئة.
يوجد بجانبهم 47 ألف لاجئ من سوريا يعيشون في مراكز إيواء مؤقتة موزعين على سبعة مخيمات للاجئين في هذه المحافظات العشرة، يعانون ظروفاً سيئةً ويعتمدون بشكل كامل على المساعدات الدولية المقدمة لهم، كما يوجد بينهم حوالي 4500 فلسطيني معظمهم من المهجرين من سوريا يعيشون لجوءاً وتشرداً لثالث ورابع مرة وربما أكثر.
أوضاع اللاجئين والنازحين في الشمال السوري لا تقل سوءاً، حيث يعيش 7 مليون سوري ضمن المناطق المنكوبة شمال وشمال غرب سوريا، بينهم 4 مليون شخص ممن يحتاجون للمساعدة أصلاً قبل هذه الكارثة، وتقدر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، أن نحو 5.3 مليون شخص حالياً هم دون مأوى في المنطقة المنكوبة ضمن الحدود السورية، وفي بعض مناطق الشمال السوري تراكمت في العقد الأخير موجات متتالية من النازحين واللاجئين من السوريين والفلسطينيين الذين فروا من مناطق أخرى خلال الحرب في سوريا.
يبلغ عدد مخيمات اللاجئين ومراكز الإيواء المؤقتة 1633 مركزاً ومخيماً وتجمعاً، يعيش فيها مليون وثمانمائة من اللاجئين والنازحين، يعانون من غياب أبسط مقومات الحياة، و يداهمهم الجوع والبرد في كل شتاء، من فقدان الخدمات الصحية و تعرضهم الدائم للتلوث والأمراض، وقد كانت مخيمات هؤلاء موضوع لنداءات استغاثة إنسانية تطلق منذ شهور عدة نظراً لتردي شديد للوضع في الأراضي السورية.
استجابة دولية ضعيفة وأخطار متفاقمة
منذ وقوع الزلزال تعالت مناشدات اللاجئين والنازحين في الشمال السوري تطالب بمساعدة العالم لهم في إنقاذ ذويهم من تحت الأنقاض، وفي إغاثة من تشرد منهم، لكن بذرائع مختلفة تأخر وصول أي مساعدة لهم، فيما تذرعت الأمم المتحدة بعدم صلاحية الطرق لإيصال المساعدات لتلك المنطقة انطلاقاً من الأراضي التركية، وحتى يوم الخميس فقط وصلت أولى قوافل المساعدة المحدودة المكونة من بضعة شاحنات فقط.
يدرك العالم والقائمون على المنظمات الدولية والإنسانية العاملة في الشمال والشمال الغربي السوري، أن هذا العالم تخلى عن السوريين في مرحلة البحث والإنقاذ التي انتهت بشكل كارثي، وأن ما يحتاجه هؤلاء اللاجئين والنازحين لأجل النجاة يتطلب استجابة مغايرة تماماً من المؤسسات الدولية المعنية ودول العالم والدول المحيطة على وجه الخصوص.
لا تبدو هناك إشارات تبعث على التفاؤل بشأن الاستجابة الدولية لوضع المهجرين والنازحين واللاجئين في الشمال السوري، ذلك ما عكسته تجربة هؤلاء مع المسؤولية الدولية خلال عقد من الزمان عانوا خلالها وكافحوا لأجل النجاة، وازدادت خلالها ظروفهم سوءاً عاماً بعد عام، خصوصاً في ظل تراجع قدرتهم على الوصول للوقود اللازم للتدفئة هذا الشتاء، والشح والغلاء المتزايد للمواد الغذائية الأساسية وصعوبة الحصول على المياه النظيفة، ناهيك عن غياب للبنى التحتية ودمار هائل لحق بمدن الشمال السوري بفعل الحرب وعمليات القصف التي لم تنقطع لعدة سنوات.
قضى الزلزال على معظم البنى التحتية المتبقية في مدن الشمال السوري ومخيمات اللاجئين فيه، وبات إصلاح شبكات المياه والكهرباء المدمرة متعذراً والوصول للوقود ومواد التدفئة ومياه الشرب والغذاء شبه مستحيل لعموم الأفراد، وخصوصاً على العائلات وكبار السن والأطفال.
المفوضية السامية للاجئين أشارت في تصريحات مسؤوليها في تركيا وفي الشمال السوري، إلى تركيزها على إدخال مساعدات أساسية غير غذائية في هذه المرحلة تتمثل في الملابس الدافئة و البطانيات والخيام ومواد أخرى تتعلق بالإيواء المؤقت للأعداد المتزايدة من المنكوبين والمهجرين، ومع ذلك لا زالت هذه المساعدات شحيحة جداً، لا تكفي إطلاقاً لإغاثة المنكوبين وإيوائهم، فيما تبرز مجموعة من المخاطر المحدقة والتي من شأنها توسيع وزيادة حجم الكارثة، أبرزها آلاف الجثث التي ربما لا زالت تحت الأنقاض، ومخاطر تفشي الأمراض والأوبئة المرتبطة بذلك في ظل غياب وجود فرق مختصة للتعامل مع هذا الجانب، وأيضا للتعامل مع واقع الخدمات الصحية والمرافق المتردية في مخيمات اللاجئين ونقاط الإيواء والمرافق العامة التي جرى تحويلها لنقاط إيواء مؤقتة تكتظ بأعداد هائلة تفوق قدرتها على الاستيعاب بما يشكل ظرفاً لتفشي الأمراض وزيادة مخاطرها وتهديدها للحياة.
لا يقتصر الخطر في الشمال السوري على آلاف المباني التي دمرها الزلزال أو تداعت بفعله وباتت تهدد السكان، ولكن على آلاف أخرى من المباني المتداعية بفعل الحرب والقصف وجاء الزلزال ليزيد من قابليتها للانهيار و الفتك بأرواح السكان.
يقع هذا العبء كله على لاجئين ونازحين استنزفوا بالفعل مواردهم وقدراتهم المالية والاقتصادية منذ سنوات بفعل تهجيرهم المتكرر، أو بفعل ظروف الأزمة المعيشية التي يعانيها الشمال السوري، وهو ما جعل الزلزال بتداعياته المدمرة على حياتهم يشكل ضربة قاصمة لفرصهم في النجاة.
دون برنامج دولي شامل، يبدأ بخطة طوارئ إنقاذية عاجلة، تكاد فرص هذه الملايين من الناس في النجاة تكاد تنعدم، مع إمكانية تحول مناطقهم لساحة للأوبئة والموت والتشرد تجوبها وتقطنها مجموعات بشرية لا تملك شيئاً من موارد الحياة.
صوت الإنسانية في وجه الموت: الضحية تساعد الضحية
بينما أظهرت عدد من دول العالم الكبرى استجابة سريعة وفائقة لحاجات الحرب والتسليح ونقل أدوات الموت والدمار في ساحة الحرب الأوكرانية، فإن مساعدة المنكوبين في الأراضي السورية تركت لينهض بها ضحايا سياسات الموت والتهجير من أبناء شعوب المنطقة.
مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان التي تعاني عوزاً وظروف حياة مريعة، بادر أهلها لإطلاق حملات لإرسال المساعدات لمنكوبي الزلزال في سوريا، فيما سارعت مجتمعات اللاجئين المهجرين في بلدان المنطقة لحملات جادة استندت في الأساس على المساهمة المجتمعية والشعبية من هؤلاء اللاجئين الذين بادروا لتقاسم قوتهم الشحيح ومواردهم البسيطة والمتناقصة مؤخراً مع إخوتهم، وهو إن كان مؤشراً على الاستعداد للتضافر والتضامن بين هؤلاء الضحايا، فإنه أيضاً إشارة واضحة على حجم التقصير والتخاذل الدولي والمؤسساتي عن تقديم ما يحتاجه هؤلاء البشر لأجل النجاة بأرواحهم، فحين تصل القوافل من مخيمات عين الحلوة ونهر البارد وتجمعات اللاجئين على اختلافها للشمال السوري وشمال غرب سوريا متخطية حدوداً معقدة و صعوبات وحواجز بيروقراطية مريرة، فيما ينتظر العالم ومؤسساته ليرسل 83 شاحنة مساعدات بعد 9 أيام على وقوع الكارثة فالمؤكد أن استعداد الأطراف المسؤولة والمؤسسات الدولية والإرادة الدولية للعمل من أجل حياة البشر في أدنى مستوياتها.
نداء لأجل النجاة والإنقاذ
يحتاج إطلاق خطة إنقاذ شاملة لملايين من اللاجئين والنازحين الموزعين بين شمال سوريا وجنوب تركيا إلى إرادة دولية حقيقية، يعبر عنها قرار تصدره الأمم المتحدة وتشرع في تنفيذه عشرات المؤسسات الدولية المعنية على وجه السرعة، وما تأخر المؤسسة الدولية الأم حتى الآن بهذا الشأن إلا تأكيداً على حجم التراخي وغياب المسؤولية الإنسانية عن المجتمع الدولي ممثلاً بمؤسسته الأكبر الأمم المتحدة. أمام هذا الدمار المتحقق والموت المحدق، نطالب بحماية إنسانية كاملة لهؤلاء اللاجئين يحملها برنامج إغاثي وتنموي شامل يبدأ بخطة طوارئ إنقاذية تتحمل مسؤوليتها الأمم المتحدة وتشرف عليها وتجند لها الموازنات وتحشد الموارد والدعم السياسي اللازم لتنفيذها.
وإذا كنا نضم صوتنا لأصوات الضحايا وذويهم الذين أدانوا التقاعس الدولي عن إنقاذهم، فإننا نسجل شهادة حول تقصير المؤسسات الدولية المعنية وخيانتها لهؤلاء اللاجئين والمنكوبين في أشد لحظاتهم ولحظات الإنسانية قسوة ومرارة، ما يجدد التذكير بالخلل الهائل في سياسة هذه المؤسسات وفي إرادة الأطراف المهمينة عليها.
واذا كان الحيز الدولي يرسل لشعوب هذه المنطقة إشارات الخذلان، فإن الواجب أن يستذكر أهل هذه المنطقة ارتباطهم الإنساني الحي، ويعملوا على تجاوزه بتحرك جامع لدول وشعوب المنطقة لأجل إنقاذ الضحايا، يتجاوز أي حواجز سياسية ويؤمن بالحق الإنساني في الحياة و بمعاني التضامن والإخاء في هذه الأوقات المريرة.
إن واجب كل المعنيين بحقوق هؤلاء المنكوبين، والمؤمنين بحقوق الإنسان من بين أبناء هذه المجتمعات، أن يتحركوا للضغط لأجل تحرك دولي لإنقاذ الضحايا، و بهدف إزالة العوائق التي تقف في وجه حرية الحركة والتنقل للناس و المساعدات وإزالة وتذليل أي قيود أو عقبات أو حواجز تقف دون ذلك.