ربّما كان عدوان جيش الاحتلال الموسّع على مخيم جنين والمدينة بأكملها فجر الاثنين الماضي 3 تموز/ يوليو مباغتاً، إلّا أنّه وسرعان ما اتخذ المقاومون مواقعهم وتراصّت صفوفهم وبنادقهم ومواقفهم، معلنين القتال حتى النفس الأخير تحت ظلال معركةٍ أطلقوا عليها "بأس جنين" للرد على عدوان الاحتلال الذي أسماه "البيت والحديقة".
خلال هذه المعركة التي استمرت يومين، فاجأ مقاومون لا تقارن أسلحتهم ولا تدريباتهم بما يملك الجيش "الإسرائيلي" قادة كيان الاحتلال، وعادت إلى الأذهان مشاهد الاشتباكات التي شهدها عام 2002، حين تصدّى المقاومون لعملية الاحتلال التي أسماها آنذاك "السور الواقي"، مُؤكدين أنّ هذا المخيم لا تخبو فيه جمرة المقاومة، ولو بعد حين.
استخدم الاحتلال خلال هذا العدوان عتاداً عسكرياً يكفي لحربٍ ضد دولةٍ بأكملها، من الجيبات المصفّحة إلى الجرّافات العسكريّة والطائرات الهجوميّة والتجسسيّة وأكثر من ألف جندي من جميع الوحدات الخاصّة، وكان أمام هذه القوات المدجّجة هدف واحد هو القضاء على المقاومة، لكنّ على الأرض كان الفعل مختلفاً، نصب المقاومون الكمائن وخاضوا اشتباكات عنيفة، وأفشلوا هدف الاحتلال، بل قتلوا ضابطاً له أثناء الانسحاب من المخيم.
مخيم جنين منذ تأسيسه كان عصياً على الانكسار، وفي المعركة الأخيرة سطّر أهالي المخيم عرفها التاريخ سابقاً بثباتهم وصمودهم ووحدتهم أمام الترسانة العسكريّة التي أفلت نتنياهو وحكومته اليمينيّة المتطرّفة زمامها بشكلٍ وحشي على النساء والأطفال، ليخرج بصورةٍ هزيلةٍ على أطراف المخيم، ويخبر حكومته وجمهور المستوطنين أنّه "انتصر"، وهذا ما لم يحدث كما يقول أهالي المُخيّم الذين فقدوا 13 من أبنائهم شهداء خلال العدوان.
مسألة واحدة نجح فيها الاحتلال بكل تأكيد، وهي تدمير المخيّم وبناه التحتيّة وتشريد السكّان، إذ طال الدمار منازل اللاجئين الفلسطينيين الذين تشرّد منهم نحو3500 ألف لاجئ، وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات، إلى جانب تجريف عدّة كيلو مترات من الشوارع الرئيسيّة والفرعيّة، وتعقيباً على ذلك أكَّد ممثل الاتحاد الأوروبي "سفن كون فون بورغسدورف"، أنّ الاقتحام العسكري لمخيم جنين للاجئين الفلسطينيين كان مؤلماً للغاية، وما جرى يعدّ انتهاكاً للقانون الدولي، مُشيراً خلال زيارةٍ نظّمها للمُخيّم رفقة 30 دبلوماسياً أوروبياً، إلى أنّه تم تدمير عشرات البيوت في إطار 9 كم، وتدمير شبكات المياه والصرف الصحي في المخيم.
سر مخيم جنين
يقول عضو المجلس الثوري لحركة فتح القيادي جمال حويل لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ السر وراء هذا الصمود الأسطوري الذي قدّمه مخيم جنين لم يأت من فراغ، أو بمحض الصدفة، بل جاء نتاج سياقٍ تاريخي مرتبط بالتاريخ النضالي والعسكري لمحافظّة جنين ومخيمها بالتحديد، وذلك بدءاً من معركة الشهيد عز الدين القسّام في العام 1936، مروراً بالشيخ حسن أبو سريّة الذي استشهد في العام 1969 ومعاركه التي خاضها في واد عز الدين، وفتحي القانوع الذي كان أوّل استشهادي ونفّذ عمليّة وسط جنين قتل فيها ثلاثة جنود للاحتلال بعد تفجير آلياتهم العسكرية عام 1982.
يضيف حويل: هذا امتداد أيضاً لما جرى في الانتفاضة الأولى عام 1987 حيث شهد مخيم جنين انطلاقة الخلايا الأولى لمجموعات "الفهد الأسود" التابعة لـحركة "فتح"، و"النسر الأحمر" التابعة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، و"كتائب القسام" التابعة لـحركة "حماس"، إضافة إلى مجموعات "عشاق الشهادة" التي أصبحت فيما بعد "سرايا القدس" التابعة لـحركة الجهاد الإسلامي، وصولاً إلى المعركة الخالدة في مخيم جنين خلال نيسان/إبريل عام 2002 التي استشهد فيها 52 من أبناء المخيم، وقتل فيها 23 جندياً "إسرائيلياً".
سياقٌ تاريخي مبني على الوحدة السياسية والاجتماعية
ويُؤكّد حويل وهو أحد أبرز القادة الذين خاضوا المعركة وشاركوا في القتال عام 2002 في مخيم جنين، أنّ هذا السياق التاريخي المبني على الدم، والسياق الاجتماعي لدى هذه العائلات المتضامنة والمتكاتفة والمتعاطفة والمتعاضدة، إلى جانب السياق الاقتصادي الصعب، كل هذه المعاناة والهم الواحد المشترك وروحيّة النضال العالية هي من جمّعت كل هؤلاء، إلى جانب السياق السياسي بأنّ كل الفصائل السياسيّة موجودة في المخيم مع وجود قيادة كبيرة في ذلك الوقت استطاعت أن تستنفر الوعي الجمعي لأبناء المُخيّم بأنّنا أصحاب قضيّة لجوء وجميعنا أبناء مُخيّم، وبعد ذلك اجتمع ابن المخيم وابن الريف والمدينة تحت مظّلة هذه الهويّة الوطنيّة وانضوى فيها ابن فتح والجهاد وحماس والشعبيّة والديمقراطيّة وبقيّة الفصائل المقاوِمة.
ويرى حويل أن سلوك أبناء مخيم جنين خلال العدوان الأخير يأتي في سياق تاريخي كبير وزاخر أصبح نهجاً لكل أبنائه، وهذا النهج قائم على فكرة "أنّنا لن نسمح بتكرار اللجوء مرّةً أخرى إلّا بالعودة إلى بلداننا، وأنّ الاحتلال لن يمر فوق أرض المخيم دون أن يدفع الثمن لهذا الإجرام". ويعبّر حويل أنّ الوحدة الوطنيّة والتلاحم الحقيقي كان الأساس في التصدّي لعدوان الاحتلال الأخير على المخيم، مضيفاً: "إذا تجوّلنا اليوم بين أزقّة المخيم سنسمع أنّ الجميع كان في خندقٍ واحد خلال المواجهة، ولن نسمع أحداً يتحدّث بأنانيّة أو بنفسٍ فصائلي أو حزبي، وقطعاً لا يوجد أي رصاصة أو عملية أو عبوّة تم تصنيعها وإلقائها على جيش الاحتلال إلّا وكانت بتمويل وصناعة وهندسة تشكيلات المقاومة مجتمعة في المخيم، ولذلك كان جميع المقاومين موحدين في الميدان" بحسب قوله.
"من شارون حتى نتنياهو.. هذا ما فعلناه"
من المعروف أنّ اجتياح المخيم عام 2002 على شراسته لم يكسر المخيم كما أراد "آرئيل شارون" رئيس حكومة الاحتلال "الإسرائيلي" حينها، أمّا اليوم وأمام ما ارتكبه نظيره "نتنياهو"، ما هي إمكانيات المخيم للنهوض من جديد ونفض غبار العدوان الأخيرة والاستعداد لما هو قادم؟
يرى حويل في هذا الإطار، أنّ الذي جرى مؤخراً من عدوانٍ على المخيم لا يُقارن بالذي حصل من مجازر في العام 2002، حيث دُمّر المخيم عن بكرة أبيه في ذلك العام، واليوم المخيم قادر على النهوض وبسرعة سيُشاهدها الجميع بأم عينه من خلال تضامن أهله والتضامن من كل مدن الضفة التي سارعت إلى دعم مخيم جنين وإسناده وتوفير كل ما يلزم له.
يقول القيادي الفلسطيني: لكنّنا نعلم أنّه صراعٌ طويل ومستمر منذ أكثر من 75 عاماً، وعلى هذا الأساس لن يتراجع المقاومون عن مقاومتهم إلّا بالتحرير والعودة، موجهاً رسالة أخيرة للاحتلال في حال عاد الكرّة واستأنف عدوانه على جنين وهي: لن تمروا.
أوقاتٌ عصيبة عاشها أهالي مخيم جنين، تشريدٌ وتهجيرٍ متعمّد دون أي سابق إنذار، مشاهدٌ أعادت للذاكرة النكبة الفلسطينيّة، إذ هُجّر اللاجئون في هذه الجغرافيا الضيّقة للمرّة الثالثة، وذاق الأحفاد مرارة اللجوء التي سمعوا عنها في حكايا الأجداد.
"ليالٍ مرعبة".. هديل تروي قصتها
هديل البيطاوي، شابة فلسطينيّة من مخيم جنين، عاشت وعائلتها ليالٍ مرعبة كما تصف لموقعنا، عشرات الجنود برفقة كلابهم البوليسيّة هاجموا بيوتهم، روّعوا السكّان، وسرقوا ما توفّر أمامهم من أموالٍ ومصاغاتٍ ذهبيّة، عدا تفجير محيط المنزل والتحقيق الميداني مع بعض أشقائها.
تقول هديل: "ضرب الجنود طوقاً أمنياً حول المنزل، وقاموا بتفجير أحد الجدران ودخل أكثر من 30 جندياً برفقة الكلاب البوليسيّة التي هاجمت زوجة أخي نور بكل وحشيّة وهي برفقة طفليها الصغيرين، وبكل ما تحمله الكلمة من معنى التهمت الكلاب يد زوجة أخي اليسرى حتى ظهرت عظام يدها، وأصبحت أرضية الشقّة مليئة بالدماء، وفي ذات الوقت اقتحمت كتيبة أخرى من جيش الاحتلال شقّة أخي عماد وحقّقت معه ميدانياً وأبرحته ضرباً على وجهه ورقبته، بعد أن تركوا الكلاب المتوحشة تعتدي عليه وتُرهبه هو وزوجته الحامل في شهورها الأخيرة، اعتقلوه عقب ذلك، وأفرجوا عنه بعد 5 أيّام من التحقيق".
فشلت أهداف العدوان لذا هناك خشية من تكراره
تتابع هديل الذي ارتقى والدها أحمد البيطاوي شهيداً في الانتفاضة الأولى عام 1987 وما يزال عدد من أخوتها معتقلين: بعد أن قصفوا جدار المنزل بصاروخٍ موجّه وأحدثوا فتحة دخلوا منها احتجزوا كل النساء والأطفال في شقّة واحدة ووضعوا عليهم حراسة بعد مصادرة جميع الهواتف وسرقة الأموال والمصاغات الذهبيّة، ومن ثم انتقلوا إلى منازل ومناطق أخرى.
وتؤكّد هديل لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: أنّ جنود الاحتلال أجبروا العديد من سكّان المنطقة على النزوح ومغادرة منازلهم دون تحديد أي وجهة يذهبون إليها، المهم إخلاء منازلهم وسط أجواءٍ من الرعب الشديد، واليوم هناك تخوّف من أنّ الاحتلال قد يشن هجوماً آخر على المخيم في أي وقت في ظل فشله في تحقيق أهدافه بالقضاء على شباب المقاومة.
كان واضحاً خلال هذا العدوان حجم الدمار الواسع، وتعمّد الاحتلال تغيير تضاريس المخيم لما تمثّله هذه المخيمات من معنى سياسي، وتجسّده وتوثّقه حول معاناة ملايين اللاجئين الفلسطينيين المستمرة منذ عام 1948.
خسائر هائلة في المنازل والبنى التحتية
يقول رئيس بلدية جنين نضال عبيدي لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، أنّ الاحتلال جاء لتدمير البنى التحتيّة للمقاومة، ولسوء حظّه وجد بنى المقاومة صلبة جداً، لذلك لجأ لهدم البنى التحتيّة لجنين ومخيم اللاجئين فيها وبدأ بحفر وتدمير الشوارع والمياه والصرف الصحي والكهرباء وحتى خزانات المياه الموجودة على أسطح المنازل، حتى يقطع كل موارد وأشكال الحياة عن المخيم، وبعد انسحابه شاهدنا على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي ما لا يعطي المخيم حقّه، وبعد انقشاع الغبار بدأت الخسائر تظهر على حقيقتها وتبيّن أنّها كبيرة جداً.
ويوضح عبيدي، أنّ الطواقم المختصة المختلفة ما زالت تعمل على إحصاء الأضرار بشكلٍ دقيق، لكن ما هو واضح أنّ هناك دمار كبير في البيوت والمنازل بشكلٍ كلي أو جزئي، وتجريف لعشرات الشوارع، وهناك شوارع من الصعب السير فيها بشكلٍ آمن لثِقل جرافات الاحتلال العسكريّة الثقيلة جداً التي كانت تمر من خلالها، وكانت هذه الجرافات "المجنزرة" تفتّت الشوارع عن عمد، إلى جانب إحراق محلات تجاريّة في سوق جنين بشكلٍ كامل، وفي كل يوم يتبيّن لنا دمار جديد وقريباً ستصدر إحصاءات جديدة أكثر دقّة.
العدوان متواصل ولم يتوقّف
يؤكّد عبيدي، أنّ الكل يدرك أنّه من المتوقّع أن يعيد الاحتلال الكرّة، لكن من الظلم أن نقول أنّ ما أصاب المخيم هو بفعل العدوان الأخير فقط على مدار 40 ساعة متواصلة من العدوان والدمار، لكنّ الحقيقة أنّ الاحتلال منذ أكثر من عام يداهم جنين ومُخيّمها والخسائر الماديّة والتجاريّة كانت جسيمة طوال هذه الفترة مع أضرار كبيرة للموارد الغذائية والتجاريّة، ولدينا أكثر من 180 يوم تعطيل عن العمل، وأكثر من 185 شهيداً في هذه المنطقة، أي أنّ المخيم ومنذ أكثر من عام يُعاني.
يضيف عبيدي: أنّ المطلوب قد تحقّق بعضه، وذلك من خلال التضامن والإسناد الواسع الذي حظيت به جنين ومُخيّمها من أهالي القرى والبلدات والمخيمات الأخرى، ومدى الالتفاف الواسع حول فكرة المقاومة والتصدّي للاحتلال، لكنّ المطلوب هو الاستمرار في هذا الدعم والإسناد وتكاتف كل الجهود حتى تعاد الحياة إلى المخيم من جديد.
تأسّس مُخيّم جنين عام 1953، وهناك 23,628 لاجئ فلسطيني مسجلين في المخيم في عام 2022، فيما تقدّر الكثافة السكّانيّة في المُخيّم بأكثر من 56,000 نسمة لكل كيلومتر مربع، وتقدّم أربعة مراكز صحية تابعة لوكالة "أونروا" الرعاية الصحية الأوليّة التي تشمل الصحة الإنجابية ورعاية الرضع والأطفال والمطاعيم والكشف والفحوصات الطبية والعلاج، بحسب بيانات وكالة "أونروا".