لم تترك حرب الإبادة "الإسرائيلية" التي يشنها جيش الاحتلال "الإسرائيلي" على قطاع غزة معلماً بارزاً في القطاع إلا واستهدفته،، في محاولة لإزالة مكانة ودور وموقع غزة من خارطة الوجود والتأثير.
عشرات المبدعين من فنانين وشعراء وكتاب وأيضاً أطباء وصحفيين ارتقوا شهداء جراء الغارات الجوية "الإسرائيلية" التي استهدفت المنازل المأهولة ومراكز اللجوء والجامعات والمستشفيات والمساجد والكنائس.
دمّر الاحتلال "الإسرائيلي" عشرات المكتبات العامة والخاصّة، وحرق الاف الكتب التاريخية والوثائق النفيسة، واستهدف مباني المراكز الثقافية والمتاحف والمباني الأثرية بشكل واسع.
وقالت بلدية غزة: إنّ الاحتلال "الإسرائيلي" قصف بشكل متعمد مبنى المكتبة العامة التابع للبلدية في شارع الوحدة وسط المدينة، وأعدم الوثائق والكتب التاريخية في مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية.
كما دمر القصف "الإسرائيلي" العديد من المراكز الثقافية، عُرف منها خمس مكتبات ودور نشر في القطاع، وستة مراكز ثقافية، بالإضافة إلى تصدع وتأثر عدد من المؤسسات الثقافية والفنية بضرر كلي أو جزئي، كما تعرضت معظم أجزاء البلدة القديمة لمدينة غزة وفيها 146 بيتًا أثرياً، إلى أضرار عديدة، وكذلك تضررت مساجد وكنائس مثل: "كنيسة القديس برفيريوس العريقة" وأسواق ومدارس قديمة وتاريخية، وميناء غزة القديم، كما تحولت العديد من المؤسسات الثقافية لمراكز إيواء للنازحين مثل "مركز رشاد الشوا"، و"جمعية نوى" وتعرضت بعدها للقصف كما عدد من المراكز الأخرى.
وقد عبّرت "وزارة الثقافة" الفلسطينية عن عمق جراحها على هذا الصعيد، وقالت في تقرير أولي حول ما تعرّض له القطاع الثقافي الفلسطيني نتيجة العدوان على غزة: إن من بين شهداء الحقل الثقافي في قطاع غزة الفنان الكوميدي، علي نسمان، وهو مقدم لمحتويات ساخرة، وشارك في عدة أعمال درامية تلفزيونية، وساهم في توثيق جرائم الاحتلال "الإسرائيلي" في غزة باستخدام هاتفه الذي نشط باستخدامه للحديث عن أوضاع الفلسطينيين جراء القصف الذي استهدفهم. ويغيب نسمان اليوم عن المشهد في فلسطين، بعد استشهاده في غارة صهيونية على القطاع، عقب يوم من ظهوره في مقطع فيديو تحدث فيه عن "حتمية النصر أو الشهادة".
وفي وقت سابق، كتب النسام عبر حسابه: "ما زلنا نرابط، وسنظل نرابط، إما النصر وإما الشهادة، ورحم الله السابقين، وثبَّت المجاهدين".
والله لن نريكم منا لا خوفا ولا فزعا .
— علي نسمان (@AliNassman) October 12, 2023
لن نركع الا لله . pic.twitter.com/7OlvyE4Eck
أصدقائي ثقة بالله ورحمته. اذا انقطعنا عنكم فسنلتقي إما في القدس، أو الجنة .
— علي نسمان (@AliNassman) October 12, 2023
كما استشهدت الفنانة التشكيلية، هبة زقوت، التي نشرت مقطع فيديو عن أعمالها في أواخر أيلول/ سبتمبر، وقالت فيه: إن اللوحات النابضة بالحياة للأماكن المقدسة في القدس، والنساء الفلسطينيات اللواتي يرتدين الفساتين التقليدية المطرزة، كانت وسيلة لإرسال رسالة إلى العالم الخارجي، وكانت تتمنى أن يقام لها معرض فني خاص، ولكن في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 استشهدت مع طفليها، آدم ومحمود، في غارة جوية "إسرائيلية" ونجا زوجها وطفلاها الآخران.
واستشهد الفنان الفلسطيني طارق ضبان، وزوجته، وعدد من أطفاله، جراء القصف "الإسرائيلي"، وكان قد نشر الفنان ضبان منشور له عبر حسابه الرسمي بموقع "فيسبوك"، قبل استشهاده يعني والده قائلاً: "استشهد الوالد وماتت فرحةُ، البيتِ أين صوتك الشجي يا والدي؟" لم ينتظر طويلاً وارتقى في قصف طائرات الاحتلال.
ونعى محبو الفنان طارق الضبان الشهيد بكلمات مؤثرة بعدما أعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية عن خبر ارتقائه في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري جراء قصف "إسرائيلي" إذ جاءت التعليقات كالتالي: «ربنا يرحمه»، «صدمة كبيرة لينا».
كما أعلن الفنان محمد الحاج، عن استشهاد الممثلة والمسرحية، إيناس السقا، وابنتيها، قائلاً: "لا أعلم كم من الأصدقاء سأودع من صفحتي .. كانت زميلتي في تعلم الرسم والتصوير الزيتي بجمعية الشبان المسيحية بغزة .. كانت صديقة وأخت عزيزة ... رحمك الله وغفر لك ولبناتك وإنا لله وانا اليه راجعون".
ولاحقاً كتب الحاج عن استشهاد "إيناس" في موقع صحيفة السفير وقال: إن إيناس استشهدت يوم 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.. وكانت قد نزحت من منزلها - تحت تهديد القصف - مع أبنائها إلى المركز الثقافي الأرثوذكسي الذي تحول مع غيره إلى مركز إيواء للنازحين، ولكن المركز بدوره تلقّى تهديداً بالقصف - وقد قُصف بالفعل لاحقاً - لتضطر للنزوح مرة أخرى إلى منزل عائلة الوحيدي التي استضافتهم، لكن المنزل الواقع في حارة الريس بمنطقة الصناعة غرب مدينة غزة ما لبث أن قُصف بعد فترة وجيزة من وصول إيناس وأبنائها. استخرج الدفاع المدني من تحت الركام جثامين إيناس وابنتيها لين وسارة، وأصيبت ابنتاها الأخريان، فرح، بكسور متعددة في الحوض والساقين وريتا، وأُدخلتا العناية المركزة.. بينما ابنها "إبراهيم" لا يزال تحت الأنقاض لاستحالة استخراج جثمانه وإزاحة قطعة الخراسانة الضخمة المتهدّمة عليه بما لا يُجدي معه القوة البدنية لأفراد الدفاع المدني مع عدم توافر المعدات .
وفي ذات المقال، تحدث عن الشهيدة الشابة الفنانة حليمة الكحلوت، والتي نعاها في صفحته ونشر لها صوراً من لوحات شاركت بها في ورشة عمل فنية حملت عنوان (شظايا المدينة) وقال لها: "لقد أصبحت جزءاً من الشظايا يا صديقتي".
واستشهدت حليمة خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023 مع عدد كبير من أفراد عائلتها بينهم والدها، وشقيقتها سحر وزوجها محمد حنون وأبناؤهم الخمسة ناهض ووفاء وإيلين وسيلين وأحمد، وزوجة أخيها خلود أبو عوكل وأبناء أخيها الثلاثة إياس وسيليا وليليا.
هذه قصة حليمة التي لن تنتهي باستشهادها، كما عشرات آلاف الشهداء في قطاع غزة ستظل محفورة في قلوب ملايين الناس على هذه الأرض، الذين سيذكرون جيداً أن جيشاً بأقوى عتاد وعدة كان يقتل أطفالاً وفنانين وكتاب ومبدعين.
قبل يوم من استشهاده، كان الفنان التشكيلي والممثل محمد سامي، ما يزال متطوعاً في المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) يلاعب الأطفال محاولاً تشتيت انتباههم عن صوت الطائرات والقصف البشع، ويسعى إلى طمأنتهم وهم نازحين عن بيوتهم خائفين من المجازر التي يرونها كيفما ذهبوا، كتب في ذلك اليوم يقول: "حاولت أن أخفف عنهم هذا الخوف والذعر بطلب المساعدة من طاقم من المتطوعين المدنيين داخل المستشفى، بأن نغير لهم هذه الحالة إلى حالة من اللعب والضحك والصُراخ بصوت عالي والتفريغ، وهي محاولة إسعاف نفسي أولي للأطفال والأهالي من خلال تهيئة مكان مخصص آمن للعب والترفيه، ما فعلته اليوم هي محاولة بإمكانيات بسيطة استطعت من خلالها التفريغ عن جميع الموجودين داخل المستشفى ونقلهم إلى حالة ربما أفضل بكثير مما كانوا عليه .. لن أنسى شكل وصوت ضحكاتهم في هذه اللحظة، كُلنا نحاول لنصبح كُلنا بخير.."
كان هذا الفيديو الأخير لمحمد، ألقى السلام على غزة وارتقى شهيداً مع أكثر من 400 شهيد جلهم من النساء والأطفال والمتطوعين والمرضى والنازحين جراء مجزرة "إسرائيلية" وحشية، استهدفت فيها الطائرات الحربية "الإسرائيلية" المستشفى المعمداني في 17 من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
اهتم الفنان محمد سامي بالرسوم المصوّرة (الكوميكس)؛ وسعى إلى إنشاء تجمّع فلسطيني للكوميكس يضيء مشاهد من الحياة اليومية. ومن هنا نشأت فكرة مجلة "ترانزيت" التي شارك الشهيد في تأسيسها، خلال العام الماضي، مع مجموعة من الرسامين والمهتمّين في هذا الشأن، كما شارك في فيلم تسجيلي قصير بعنوان "المطار"، والذي يرصد حلماً غير متحقّق بأن يعود لغزة مطارها الدولي الذي دمّره جيش الاحتلال "الإسرائيلي" عام 2001، ويتمكن أهل غزة من السفر متى شاؤوا كباقي الناس في العالم.
ليسوا فقط من ذكرهم هذا التقرير، بل آلاف المبدعين والفنانين والطلاب في قطاع غزة ويستحقون مجلدات تتحدث عنهم خسرتهم فلسطين إلى الأبد خلال 48 يوماً من حرب لم تراع فيها الحرمات التي يجب أن تراعى في الحروب.. حرب إبادة استهدفت كل ما هو جميل في قطاع غزة.