لبنان - بوابة اللاجئين الفلسطينيين
في الصباح كنت أنوي الذهاب إلى المستشفى، لإحضار بعض أغراضي الشخصية وبعض الكتب، وفجأة بدأ قصف عنيف ليس بعيداً عنّا، وفي طريقي قابلت الممرضين محمود شحرور أحمد أورفلي، ليخبراني أنهما لم يستطيعا الوصول إلى المستشفى، لأن القوات الانعزالية، كانوا قد وصلوا إليه، وقتلوا كل من كان هناك من الجرحى، بالإضافة إلى الأهالي الذين كانوا يستعملون قسمآ منه كملجأ!
عدنا إلى مركز الطوارئ، وبدأت أصوات الرصاص، تقترب أكثر وأكثر، إنه ليس إتفاقاً بل خدعة، ونشبت معركة كبيرة في الشارع حيث مركز الطوارئ، وكان المركز مكتظاً بالجرحى بالإضافة إلى الكثير من الأهالي، الذين حضروا للإحتماء في مركز الطوارئ.
وبينما كنا نحاول ترتيب نقل الجرحى والأطفال، من المركز إلى بناية مجاورة أكثر أماناً وإذا بنا نتفاجأ بأعداد من مقاتلي القوات الإنعزالية، وقد وصلوا لمركز الطوارئ من الجهة الشمالية من محاور الدكوانة، وطلبوا منا التقدم..سرنا ومعنا الجرحى، نحملهم على ما توفر من حمالات وأبواب خشبية وتوجهنا إلى حيث أخبرونا أنّ الصليب الأحمر ينتظرنا، ولكنه كان خروجاً إلى الموت.
كانت أعداد كبيرة من النساء والأطفال بدأت بالخروج، وكان طريق الخروج من ممر إجباري، سرت والطبيب السويدي وزوجته وكان الممرضون يتبعونني، وهم يحملون الجرحى.
أوقفنا إثنان من المقاتلين الانعزاليين إلى الحائط، أمروا جميع الممرضين والأطباء، بالوقوف إلى الحائط. شعرت أنها اللحظة الأخيرة، يريدون أن يطلقوا النار علينا، وفيما كانوا منشغلين في الحديث، دعوت الممرضين إلى التحرك بسرعة، والإختفاء بين الجموع المحتشدة من الأهالي الخارجين.
وطلبت ممن كان حولي من الممرضين أن يخلعوا المراييل البيضاء وشارة الهلال، لانني أحسست بأن أمراً يدبر للطاقم الطبي، ولكننا لم نستطع تفادي الحواجز الكثيرة في الطريق.
بدأ الوضع يصبح أكثر خطورة كلما تقدمنا، والإنعزاليون يطلقون النار فوق رؤوسنا، وبين أرجلنا، ومن كل الجهات، كانوا يفتشوننا ويأخذون كل ما هو بحوزتنا، من ساعات ونقود، إلى أن وصلنا طريقاً اجبارياً آخراً، وكان هناك العديد من المسلحين الإنعزاليين.
أوقفونا جميعاً بعدما عرفوا أنني الطبيب والممرضين معي، وكادوا أن يطلقوا النار علينا فوراً، وفجأة تقدم نحوي أحد المقاتلين، وقد تعرف علي وأخذ يناديني" د.يوسف د.يوسف" لقد تعرّف عليّ، وأخذ يعرفني بنفسه، وأنا من هول ما أشاهد لم أستطع النطق.
وذكرني بأني أجريت له عملية جراحية، وأنقذته ذات يوم قبل عدة شهور، عندما أحضر إلى المستشفى، قبل الحصار الأخير، وذلك إثر إصابته في صدره، وكان في حالة خطرة، حاول إنقاذي ولكن الفاشي الآخر، كان يريد إطلاق النار فوراً وقتلنا.
جرت مشاجرة بينهما، وفجاة ظهرة أمامنا، وجه مالوف، إنه الملازم(راجح)، وهو من جيش التحرير الفلسطيني، الذين كانوا داخل المخيّم، هرع نحوي سلّم علي، وعانقني، وقدم نفسه على أنه ضابط سوري، كنت أيضا قد أجريت له عملية جراحية بيده إثر إصابته، ولقي معاملة حسنة، خلال إقامته في المستشفى كمريض وجريح، فتدخل وحسم الموقف، حاولت جاهداً السعي لإنقاذ بقية الممرضين والجرحى، ولكن بدون جدوى وباءت بالفشل كل جهودي.
قادوني وأوقفوني في مدخل إحدى البنايات، ثم إلتحقت بي أحد الأطباء السويديون، وقفنا هناك غير قادرين على الحركة، نشاهد جموع الخارجين من المخيم يمرون أمامنا، ونحن عاجزون عن تقديم أي مساعدة، كنت أسمع الأصوات الصيحات إطلاق النار، خلف البناية، بعدها شاهدت كيف أن الفاشيين، قادوا الممرضين والممرضات طابورآ إثنين إثنين، وأمروهم بالسير إلى الأمام حيث لم أستطع رؤيتهم فيما بعد، ولن أنسى نظرات "خالد"، ذلك الفتى المتطوع ، كانت عيناه تقول لي الكثير، ولكني لم أستطع عمل أي شيء، بعد قليل جاء أحد الفاشيين ببندقية رشاشة، وسمعت صليات كثيفة، وصراخ، ثم هدأ كل شيء، وخيم سكون رهيب، وكان هناك ممدوح وخالد وصبحي وبقية الممرضين، وأيقنت أنهم أطلقوا عليهم النار عليهم جميعاً.
مرّ شريط المجزرة أمامي رهيباً، لا يمكن تحمله أو وصفه، كانوا يأخذون الأهالي جماعات، ليطلقوا النار عليهم، كان المقاتلون الفاشيون، حسب أمزجتهم ورغباتهم ، يطلقون النار عمن يريدون من الأهالي، الجموع تسير، ووسط الزحام كان يسقط القتلى، بشكل يصعب احصاءه أو معرفة هوية من يُقتل.
ووسط مشاهد القتل كان أحد الفاشيين ضخم الجثة، وقد بدا مخموراً، ويحمل سكيناً طويلة ملطخة بالدماء، ويأتي بين الحين والآخر ليمسح سكينه الملطخة بدماء الأهالي الابرياء، بقميص من كان يجلس بالقرب منهم، في المدخل حيث كنا.
كان يذبح، كما يذبحون الأغنام، ثم يبدأ التفتيش في جيوب الضحايا، لقد كان مشهد قشعر له الأبدان، كانت مجزرة بكل ما للكلمة من معنى، في لحظة تتجمد فيها العاطفة، كانوا يأخذون كل ما يجدونه في جيوب ضحاياهم.
مرَّ أحد الجرحى كان يدعونهم في المخيم "لويس"، كان مصاباً برجله، ويسير على عكازتين ورجله في الجبس، انهالوا عليه ركلاً بأقدامهم ثم رموه أرضاً، ومن بنادقهم الخمسة زرعوا جسمه برصاصهم، كان منظراً مرعباً.
انقطعت عني أخبار الدكتور عبدالعزيز، وباقي الممرضين والممرضات فأنا لا اعرف ماذا حلَّ بهم بعد حوالي ثلاثة أرباع الساعة وصل أحد مسؤولي الأمن في القوات الانعزالية، من حزب "الكتائب اللبنانية" مع أحد عناصره، قادنا أنا والطبيبين السويديين ومعنا الضابط السوري "راجح"، مشينا حسب أوامره، في الطريق المؤدية إلى خارج المخيم، باتجاه ساحة الدكوانة، كان خروجاً مرعباً ورهيبآ، مشينا حوالي ثلاثمائة متر، ولكنني أحسست أنها كانت أطول طريق مشيتها في حياتي.
كانت جثث الأهالي الابرياء متناثرة على جانبي الطريق، والكثير من بطاقات الهوية الفلسطينية متناثرة حول الجثث، جثث الشيوخ، جثث الأطفال، رأيت جثة إمرأة حامل، وقد أُطلقت النار على بطنها لتوها، والدم مازال ينزف منها، وتتوالى الجثث أمامي والطريق تطول وتطول، وفي نهاية الطريق، كانت هناك آلياتهم وهم على ظهرها يتلذذون بمنظر القتلى، أخذونا في سيارة المسؤول الأمني إلى مقرّ قيادتهم في المنطقة الجديدة، هناك وفي المبنى، عرفت من خلال اليافطة الكبيرة المعلقة على المدخل انه " إقليم المتن الشمالي- الكتائب اللبنانية".
أدخلوني إلى مكتب الشيخ أمين جميّل، قدموني إليه بأنني طبيب المخيم عندما أدخلت إليه لمحت ضابطين سوريين من رتبة عالية، غادرا المكتب عند دخولي، ولمحت من خلال النافذة في الطابق الثاني طائرة هيلوكبتر سورية رابضة قريباً من المبنى.
نظر الشيخ أمين إلي هازئاً، وقال: "أنظر تقولون إنني فاشي، ويدي ملطخة بالدماء، وها هي نظيفة" وبعد أن صافحني مع من كان معه في مكتبه غسلوا أيديهم بالكحول، كانوا ينظرون إلي بدهشة، كأنني مخلوق من كوكب آخر، لم يكونوا ليصدقوا أن هناك بشراً داخل المخيم، كانوا يظنون أنهم يقاتلون أشباحاً، المخيم مدمر كلياً، فأين الناس إذاً؟ أين المقاتلون؟ كانوا يسألون أسئلة ساذجة ثارت إستغرابي حول الأنفاق، والمدافع الكبيرة، حول الصينيين والفيتنام والصوماليين.
وهناك إلتقيت برئيس بعثة الصليب الأحمر الدولي، جان هوفليجر، والذي أظهر مهنية عالية وحيادية ملفتة، مرًّ بجانبي كما لو أنه لا يعرفني البتة! ولكنه في نفس الوقت، دخل إلى الغرفة ، حيث كنت أتواجد بعد جهد جهيد، مع مجموعة من المراسلين الأجانب، بينهم مراسل هيئة الإذاعة البريطانية، ومراسلين فرنسيين، وصحيفة النهار(عرفت فيما بعد منه شخصياً، أنه فعل ذلك ليسجل وصولي إلى هناك حيَّاً..كانوا لا يريدوننا الإدلاء بأي تصريح، ويريدون التكتم على مصيرنا في ذلك اليوم، حيث القتل والسحل في الطرقات كان سيد الموقف) أخبرته فوراً أن الدكتور عبدالعزيز، والطاقم الطبي، كانوا خلفنا، وكانوا ضمن جموع الأهالي، ولا أعرف شيئاً عن مصيرهم، وعلى الفور، تكلم بجهاز اللاسلكي، وتحركت سيارة تابعة للصليب الأحمر الدولي لمنطقة الدكوانة، لانقاذ د.عبدالعزيز، وباقي الطاقم الطبي، وبعدها بدأوا التحقيق معي، وحضر أحدهم وقدم نفسه:
- أنا الدكتور ريشار، مسؤول الإقليم الطبي الكتائبي
- أهلاً وسهلاً
- دكتور يوسف أنت مهتم، بالتمييز في معاملتك بين الفلسطينيين واللبنانيين، والمسيحيين والمسلمين، كنت لا تسعف اللبنانيين، وتسحب منهم الدم حتى الموت وتعطيه للفلسطينيين.
وابتسمت لهذا الإدعاء، وكانت أعصابي في تلك اللحظة غير متوترة، كنت أتكلم بهدوء، وكنت مسبقاً، قد حسمت مسألة الحياة والموت، من هول ما رأيت في ذلك اليوم الدامي، ولذلك اليوم الدامي، وذلك قلت له: هل تعرف ما هو سبب وجودي حيَّاً هنا؟ "لقد أنقذني أحدهم، لأنني ذات يوم، أجريت له عملية جراحية، وأنقذت حياته، تعرف عليّ أثناء الخروج وأنقذ حياتي! وهذا دليل كاف على عدم تمييزي بين الناس كما تدعي".
- ولكن هناك شخص، يعرفك وهو في الغرفة المجاورة ويشهد بأنك كنت تمارس التمييز في عملك الطبي ولم تسعف قريباً له حتى مات.
كنت واثقاً من نفسي تماماً، ولذلك شعرت أنهم يخوضون ضدي حرباً نفسية خاسرة فقلت له: أين هو هذا الشاهد؟ أنا مستعد للمواجهة، ولكن عندي بعض الأمور سأواجهكم بها.
- وسردت له بالأسماء، مجموعة ممن يصفهم حسب الدين والجنسية(فقاموسهم مليئ بتلك المصطلحات) كيف أجريت لهم عمليات جراحية، وكيف أنقذت حياتهم وأوصلتهم إلى ذويهم، عن طريق لجنة الارتباط، وواجهته بالأسماء، سردت عليه قصة الجريح، الذي أصيب إصابة بالغة في رأسه ورصاصة إخترقت إحدى عينه، وكادت أن تكون قاتلة، وكيف أجريت له العملية، وكيف أنّ المقاتلين في المخيم تبرعوا له بالدم.
- كنت دائم السؤال عن د.عبدالعزيز، وباقي الممرضين والممرضات. وكانوا يقاطعونني مطمئنين، إن الدكتور عبدالعزيز بخير، وسوف يحضر إلى هنا، وحوالي الساعة الثانية بعد الظهر، أحضروا د.عبدالعزيز، إلى الغرفة المجاورة(كما عرفت منهم فيما بعد)، ووجهوا له نفس الاسئلة، بقيت قلقاً، ومشغول الفكر على مصير باقي الممرضين والممرضات، ممن لم يكونوا ضمن من أُطلق عليهم الرصاص.
كنت أفكر في مصير الممرضة بهاء، التي كانت بجانبي وقت الخروج ، وكانوا يطاردونها وفريال، وقد حملت حقيبتي الطبية، وفاديا التي لم أرها، منذ خروجها من مركز الطوارئ، وتمرّ أمامي صورة المجزرة، وتزداد هواجسي وأتخيلهم جميعاً قد قتلوا، وكذلك د.عبدالعزيز.
بعد إنتهاء التحقيق معي، أُدخلت غرفة أخرى، كان فيها أيضاً الشيخ شمس الدين، الذي كان إماماً في حسينية في راس الدكوانة.أحضروا لي بعض الطعام، وبدأت مرحلة جديدة فيها شيء من الملاطفة، بعد أن تبددت أفكارهم المسبقة وادعاءاتهم، وكان هناك اتصالات كثيرة من إناس كثيرين، كانوا يطالبون بإنقاذي، وإطلاق سراحي من بينهم جارتنا سونيا، وكان لها إبنان يقاتلان، في صفوف القوات الانعزالية، "وأبو غرابيت" الأرمني صاحب البناية، حيث كنا نقطن في المنطقة الشرقية، حيث عرفتهم من أصواتهم المسموعة في الغرفة المجاورة.
في الوقت الذين كانوا يعتبروننا فيه أسرى حرب، كان من بين الحاضرين أحدهم يرتدي بذلة عسكرية ويدعى (الجنرال)، وقد بدأ يحدثني بلهجة مختلفة، فيها نوع من الإحترام، بعد أن استمع إلى روايتي، وكيف عالجت مرضاي دون تمييز، وحدث أنّ أحدهم أكد صحة روايتي، عن الذين عالجتهم لمعرفته الشخصية به، والذي كان مرافق لمسؤول كبير في القوات الانعزالية، يوم أصيب على مستديرة المكلّس، إصابة بالغة في ساقه.
أحضروه بحالة حرجة نتيجة إصابة الشريان في ساقه، مع نزيف حاد، بالإضافة إلى كسر مضاعف في عظمتي الساق، فقمت يومها بالإسعافات الأولية اللازمة، وبعد أن تبرع له عدد من المقاتلين بدمهم، ونظراً لخطورة الإصابة، اتصلت بلجنة الإرتباط لنقله إلى مستشفى"أوتيل ديو"، حيث خاله يعمل جراحاً في نفس المستشفى.
فعلت روايتي فعلها على (الجنرال)، وأخذ يُحدثني بأسلوب لطيف، وبلغة تصالحية، تحدثنا عن الحرب وأسبابها، خرجنا بعدها خارج المبنى نتمشى في الشارع القريب، كنت متردداً كثيراً قبل أن أخرج معه، ولكنني أحسست ببعض الثقة في كلامه، شاهدت شاحنة وفيها عدد كبير من الرجال التي تدل ملامحهم على أنهم أسرى.
كانت الساعة الثالثة عصراً، عندما سمحوا بالخروج إلى الشرفة، حيث شاهدت قوات الأمن العربية، والتي كنا بإنتظارها في الساعة التاسعة صباحاً حسب الاتفاق.
ومن على نفس الشرفة كنت أشاهد مظاهر الإبتهاج بالإنتصارحيث يعبرون عن ذلك بنزعة سادية، ويتلذذون بمنظر سحل الجثث والذبح.
وفي الساعة الرابعة، وبعد الحاحي أحضرو الدكتور عبدالعزيز، إلى الغرفة التي كنت موجوداً فيها.
وحضر ممثل الجامعة العربية، الدكتور حسن صبري الخولي، ليتفاوض مع الشيخ أمين جميل، لإطلاق سراحنا.
وفي السادسة مساءً، إستقلينا سيارتين، واحدة للدكتور حسن صبري الخولي، يقودها الشيخ أمين جميل بنفسه، وسيارة أخرة يقودها(الجنرال) آنف الذكر، كان الجنرال أصر على أن أصعد معه في سيارته مرتبكاً وهو يقول: "فين د.يوسف... فين د.يوسف"، فأجابه الجنرال أنني في سيارته بأمان، وبدوره طمأنت الدكتور خولي، كانت خلفنا تقف حافلة كبيرة، تقل عدداً كبيرآ من الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين.
وانطلق بنا الموكب عبر المنطقة الشرقية في بيروت، حيث الحواجز الكثيرة المختلفة الولاءات، وكانت تزيد على إثني عشر حاجزاً، ومن سلم من المجزرة في المخيم، فقد قتل وسحل على هذه الحواجز، وصلنا منطقة المتحف، وهي طريق الشام وما كان يعرف بــ "الخط الأخضر"، الذي يفصل بين شطري بيروت، خرج الشيخ أمين الجميل من السيارة، وانتظرنا قليلاً كان منظراً رهيباً لتلك الحواجز، والجثث المتناثرة وعمليات السحل.
وأخذت اتساءل: ما حل بنا لو لم يرافقنا الشيخ أمين الجميل! علّني كنت ضحية السكين، التي ذبحت الكثيرين، أو كنت من بين تلك الجثث العديدة الملقاة على جانب الطريق! تابعنا سيرنا وعبرنا منطقة المتحف، باتجاه بيروت الغربية، ونحن غير مصدقين أننا أفلتنا من قبضة الفاشيين، وكان مندوب الصليب الأحمر الدولي "جان هوفليجر" قد سبقنا وأوقف سيارته، ونزل راكضاً بإتجاهنا، وكان بيننا عناق طويل وهمس في أذني قائلاً:"لم أكن أصدق أنكم ستنجون، كنت أعرف ما كانوا يضمرون لكم".
وتابعت السيارة طريقها بنا عبر بيروت الغربية، باتجاه فندق "كورال بيتش"، على الشاطئ الغربي لبيروت، وكنت في الطريق وعبر نافذة السيارة، أرى السيارات والناس، وأماكن عديدة أعرفها واشتقت إليها. وأخذت معالم الحضارة ترجع شيئاً فشيئاً، بعد ذلك الحصار الطويل، وسط الدمار وتحت القصف العنيف.
كان مدخل الفندق يعج بالصحافيين والمراسلين الأجانب، وعدد كبير من الناس ومن بينهم شقيقتي وشقيقي، حيث شكرا الله على خروجنا سالمين، بعد أن فقدا الأمل، حيث أنّ الأخبار، قد سبقتنا من خلال حديث الأهالي الذين شاهدوا المجزرة، واعتقدوا إننا قتلنا.
مكثنا قليلاً في الفندق، وتحدث معنا كل من الدكتور حسن صبري الخولي، الأخ ابو حسن سلامة، الذي أمّن خروجنا من باب خلفي في الفندق وذلك تفادياً، للصحافيين والمراسلين، وقادنا بسيارته إلى مقر القيادة الفلسطينية في منطقة الفاكهاني، وكان لقاءً حاراً بين القيادة الاخوة: أبو عمار، أبو اياد، أبو الهول ونايف حواتمة، الدكتور فتحي عرفات رئيس الهلال الأحمر الفلسطيني، تحدثنا معهم بإختصار عمّا حدث، ولينتهي بذلك اطول يوم في حياتي.
بعد يومين من الخروج، كنت والدكتور عبدالعزيز، والدكتور فتحي عرفات في الدامور، نختار مكاناً، ليكون مركز للهلال الأحمر الفلسطيني، للاستمرار في تقديم الخدمات لمن تبقى من أهالي المخيم، متابعين طريقنا مع أهالي التل، الذين حفروا في وجداني عميقاً، ثلماً إنسانياً لن انساه ماحييت.
وبقي بعدها التل، بمقاتليه يصارع ويقاوم إلى أن استشهد ولم يستسلم ،تلك كانت وقائع مذبحة من أبشع المذابح في تاريخ النضال الفلسطيني، إثنين وخمسون يوماً من الصمود الاسطوري، الذي قاوم أكثر من سبعين هجوماً إنتهت بسقوط المخيم، عبر ثلاثة آلاف شهيداً واكثر من ستة آلاف جريح ومصاب، غالبيتهم من المدنيين، دون أن يستسلم كما كانوا يراهنون، وبعدها بيومين شق مقاتلو التل المدافعين عنه طريقهم عبر الجبل، خلال معارك ضارية مع القوات الانعزالية ليلحقوا بقواعد القوات المشتركة في منطقة الجبل.
لتنتهي بذلك الملحمة الأسطورة لمخيّم صغير، في قلب بيروت الشرقية اسمه" تل الزعتر" كان عاصمة للفقراء.. وكومونة للكادحين".
"من كتاب يوميات طبيب في تل الزعتر للدكتور يوسف العراقي"