مقال : مهند الحاج علي
المصدر : جريدة المدن
نهاية العام الماضي، كشف تعداد جديد لإدارة الإحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني انخفاضاً صادماً في عدد الفلسطينيين في لبنان: 174422. 174 ألفاً (وليس 600 ألف كما يتداول بعض الساسة اللبنانيين) يتوزعون على 12 مخيماً و156 تجمعاً سكنياً في أنحاء البلاد. في غضون سنة من هذا الإحصاء، وقعت أحداث تستوجب تحديث الرقم وبشكل جدي، لإعادة النظر في مكانة الوجود الفلسطيني في الخطاب السياسي اللبناني.
بإختصار شديد، تشهد المخيمات الفلسطينية منذ شهور هجرة مُنظّمة تستأصل عائلات ومجتمعات وقطاعات كاملة تُعد بالآلاف. هذه الهجرة المنظمة عبر البحر والجو لافتة في حجمها.
جواً، على سبيل المثال، تولى مكتب للسياحة والسفر يُديره اللبناني ج.غ. في بيروت إيصال عدد كبير من الفلسطينيين إلى بلجيكا عبر أميركا اللاتينية واسبانيا، حتى بات من المشاهير في المخيمات، يتداولون الصور معه والروايات عن نجاحاته. المصادر الفلسطينية تتحدث عن 1500 شخص رحلوا فقط عبر هذا المكتب لقاء مبالغ أدناها ثمانية آلاف دولار، لكن المصادر الأوروبية تُشير فقط الى الرقم 1200. وسبب اشتهار هذا المكتب هو أمانه، رغم الكلفة المالية، ذاك أن عدداً غير معلوم من الفلسطينيين قضى عبر طرق بحرية، منهما شقيقان آثار غرقهما ضجة في المخيمات.
كلفة مكتب ج.غ. دفعت الفلسطينيين الى بيع منازلهم ومقتنياتهم في المخيمات لتأمين المبلغ المطلوب قبل السفر. إلا أن فاجعة حلّت بكثيرين تأملوا استقلال هذه الرحلة الطويلة الى بلجيكا عندما نجحت السلطات الفرنسية والاسبانية بإعتقال أفراد من الشبكة في أعقاب تحقيقات وملاحقات استمرت شهوراً. ذلك أن التهريب يحصل عبر طريق غير معهودة، إذ يُسافر اللاجئ الفلسطيني من بيروت الى اثيوبيا والبرازيل واثيوبيا، ويتوقفون "ترانزيت" في اسبانيا في طريق عودتهم الى بيروت. في اسبانيا، يُقدمون طلب اللجوء.
رصدت السلطات الإسبانية ارتفاعاً غير طبيعي بعدد الفلسطينيين الذين يُقدمون طلبات اللجوء على أراضيها، وعندها بدأت التحقيقات بالتعاون مع السلطات الفرنسية نظراً لاتخاذ بعض أفراد الشبكة من مدينة في شمال فرنسا مقراً لهم، وفقاً لتقرير نشرته "دويتشيه فيلله" قبل أيام. وجاء في تقرير الموقع الألماني عن هذه الشبكة، ولديها معرفة معمّقة بقوانين اللجوء الاسبانية، أنها حصدت 9 ملايين يورو من عمليات التهريب لأنها تقاضت من كل فلسطيني ثمانية آلاف يورو ثمن الرحلة (الرقم يتطابق مع الثمانية آلاف دولار التي يتداولها بعض الفلسطينيين).
الطريق الإسباني قد أُقفل الآن، من الأوروبيين، وليس من اللبنانيين كما يتداول بعض الفلسطينيين على وسائل التواصل. وكانت رسائل صوتية انتشرت في المخيم، تشتم الفصائل لأنها أرسلت وفداً الى المعنيين في السلطات اللبنانية لمطالبتهم بوقف هذه الهجرة الواسعة النطاق. الرحيل من هذا البلد بات حاجة ملحة.
رغم هذا الاقفال، يبقى أن طرقاً بحرية وجوية متنوعة ما زالت مفتوحة. خلال الشهور الماضية، غادر فلسطينيون لبنان الى تركيا ومنها اليونان. وتداول فلسطينيون فيديو لشاب تعرض للتعذيب والضرب على أيدي الشرطة اليونانية عند محاولته عبور الحدود، قبل اعادته الى تركيا.
واللافت أن عدداً من الفلسطينيين يسلك أيضاً طريق ليبيا، وهو الأخطر، وفقاً لمصادر في المخيم. وهناك أحاديث عن غرقى لا تتسرب إلى الاعلام اللبناني العنصري بأغلبيته حيال الفلسطينيين، ولا تُحقق فيها أي جهات مستقلة للوقوف على الحقيقة.
ذاك أن هذه المحاولات التراجيدية تأتي في سياق محدد، إذ أن غض النظر عنها، وفقاً لمصادر فلسطينية، لا يُمكن أن يُعزل عن الموقف السياسي. كما أنها تأتي نتيجة لسياسات التضييق اللبنانية المترافقة مع ترهل اقتصادي عام يُصيبنا جميعاً.
أي خطاب لبناني ممانع حيال القضية الفلسطينية، كمثل ما نسمعه في الأمم المتحدة، وعند كل مفترق سياسي، لن يكون مضحكاً ومسلياً بقدر كشفه عن نفاق فاضح في السياسة اللبنانية، يجمع بين الشعارات الرنانة والتضامن المفرط، وبين تجويع الفلسطينيين ودفعهم الى المخاطرة بالموت في رحلات مكوكية.