لا أريد هذا الوعي الوجودي

السبت 08 ديسمبر 2018
سليمان منصور، صباح هادئ، ٢٠٠٩، ألوان زيتية على قماش، ١١٤ × ١١٠ سم
سليمان منصور، صباح هادئ، ٢٠٠٩، ألوان زيتية على قماش، ١١٤ × ١١٠ سم

أربعٌ عجافٌ كانت كافية لأن أستسلم لواقعٍ ما عاد يحملني وما عدتُ أحتمله.. بيروت، تلك المدينة الجميلة، ابتلعت خلال السنوات الأربعة الماضية، كل ما لدي من عزيمة وتحدٍ، حتى بتُّ لا أجدُ فيها أرضاً أستوطنها، ولا مساحة تحتمل وجودي الثقيل؛ المرتبط بوثيقة سفرٍ منحتني إياها دولة عربية كانت وصيّة على غزّة لبضع سنوات.

فالقدر شاء لي أن أولد فلسطينية من مدينة احتُلت قبل سبعين عاماً ضمن عملية "داني" وهي من أكبر العمليات العسكرية التي قامت بها قوات "البلماح" الإسرائيلية في الساعات الأولى من صباح العاشر من تموز/يوليو عام ١٩٤٨.

يومها رحل جدي "عايش" قسراً عن منزله بمدينة اللد المحتلة إلى غزة، ومكث هناك حتى عام ١٩٦٧ لينتقل بعدها إلى الأردن، بحثاً عن "بقيّة حياة"، لم يجدها أبي هناك.. فغادر عمّان إلى ليبيا، ثم إلى تونس، فالجزائر، فالمغرب. ثم عاد إلى تونس، وبعدها ليبيا، ولاحقاً انتقل إلى سوريا، فالعراق، فمصر، فقبرص، فاليمن، وصولاً إلى لبنان، حيث استقرّ لبرهة من الدهر، صار خلالها أباً لطفلتين؛ أنا، وأخت تكبرني بعامين.

فتح رئتيه لهواء يعبّ منه ما استطاع، قبل أن يكمل رحلة الطواف حول العالم تشمل موريتانيا -بلد المليون شاعر- وأذربيجان وكازاخستان الآسيويتين.. لم تكن طريقه ممهدة بالياسمين، ولا معطرة بأريج الرياحين، بل محفوفة بالمخاطر والأهوال.. وهي الطريق ذاتها التي عبرها آلاف مؤلّفة من اللاجئين الفلسطينيين بحثاً عن قوت يومهم، فلاحقهم الموت براً وبحراً وجواً، وحصد منهم "ما ملكت يداه"، وكان البقاء للأقوى.

ولعل أبي على رأس هؤلاء "الأقوياء"، فقد كافح كثيراً في غضون خمسة وعشرين عاماً ونيّف.. مدّةٌ، كبرتُ وشقيقتي فيها كثيراً، وشِخْنا فيها باكراً.. لم نجد فيها أحياناً من يلملم خواطرنا الكسيرة.. خمسة وعشرون عاماً، كانت مدة كافية لنخضع فيها لكمٍ هائلٍ من النكبات والخيبات المفاجئة، ولم يكن بوسعنا إلا أن نتجاهلها خيبة خيبة..

نجوب أذرع الشوارع غريبتين، لا نعرف وجهة ولا شارات.. لا نُمطر ولا نُزهر ولا ينبتُ من خطواتنا شجر.. بات الحزن عندنا خفيف الظلّ.. يأتي ويذهب كما يطيب له.. سمحنا له بأن يغزو قلوبنا ويُثقل صدورنا، مثلما تصقلنا أسئلة الوجود.

هل عالمنا حقيقي؟ هذا السؤال الديكارتي الكلاسيكي، غالباً ما يُثار في أذهاننا.. كيف لنا أن نعرف أن ما نراه من حولنا هو الحدّ الحقيقي، وليس بعضٌ من الوهم الكبير الناتج من "قوة الغيب" التي أشار إليها ديكارت بـ "شيطان الشر"؟

وجودنا في هذا الكون غريب جداً.. انتظام حياتنا اليومية بحلوها ومرّها جعلنا نعتبر وجودنا أمراً بديهياً – ولكن في كل مرة ولو للحظة نتحايل فيها للخروج من هذا الرضا والدخول في حالة عميقة من الوعي الوجودي، نسأل أنفسنا: لماذا توجد كل هذه الأشياء في الكون؟ هل نملك إرادة حرّة؟

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد