هناك ذكريات تحضرنا بغية الاشتباك مع الأعماق، تباغت البوابة الموصدة والصدئة لتثور على اللحظة الآنية، فنتعلم الانتقام للموجودات ونتركها في ركنها تنتظر!.
هذه هي المخيمات، أبواب أرواحنا، وحقول تنتج محاصيل نغفو في نار حضنها لنستذكر مرارة هزيمتنا الإنسانية، وحقد تاريخنا!.
لطالما سألت أمّي عن العم أحمد، بالنسبة لأبي: "هو الجرح في قلب والدك، دخل من نافذة عينه قبل حزنين من الآن! كان يقف عند بوابة إحدى القاعات التي كانت تعنى بتنظيم مؤتمرات أحد الأحزاب، وعلى وجهه ملامح من القهر، لم يستطع والدك تفسيرها، أخذ يتامل تفاصيله بصمت وكأنه يرى سنوات عمره مرسومة بكل عضو من جسده، لم يكن يعلم أنّ قامته قد تكون لوحة والحزن ألوان تنتهك حرمة تفاصيله، والدالفون إلى القاعة ما هم سوى الرسام الذى يرضي شهوة أنامله بملك الآخرين!".
كل شيء فيه كان يصرخ بقلب والدك، بأنّ خلف جسده قلب اعتصرته الحياة وفي عينيه مواعيد للبكاء تُنتهك بها كل لحظة مشاهد الإنسانية، لم يخرج من دقائق تمليّة - كان يتأمل تفاصيل هذا الرجل بحزن - إلّا بصوت صديقه الذي رافقه لحضور المؤتمر الذي يقيمه حزب.... مؤتمر يعتمد على خطابات تضمد جراح أمثال الرجل القابع خارجاً، والذي خلف وجعاً بداخل والدك لم يشفى منه إلى حين موته.
"هيّا يا محمود لندخل لم يتبق الكثير للبدء!"، كل وجوه الحاضرين تشكلت بصورته، ومر شريط طويل أمام عينيه، وشعر برغبة لو أنّ بمقدوره أن يصل لنهايته، ليخرج إليه ويجالسه، كان هذا الدافع داخله/ أعظم بكثير من مجرد الشعور بالتعاطف "ما بالك يا محمود؟" سأله رفيقه فأيقظ هذا السؤال الخيال الذي رحل به والدك نحو هذا الرجل، وأعاده لأجواء خطاباتهم المكتنزة بالكثير من الرياء والتصنّع، والذي يناقض تماما وجه الرجل القابع خلف دهاليز المرارة التي يتجرعها بصمت وكرامة، لم يشفع له لبنان بالحفاظ عليها لولا أنه حفظها هو في جيب الزمن!.
كانت الأسئلة تعبث في مخيلته، ما الجرم الذي ارتكبه هذا الرجل حتى تعاقبه الحياة بهذه القسوة؟! وأي مجتمع نحن؟! ننام على أنين المقهورين من خلف نوافذهم؟! حتى اخترق عمقه هاجساً أخبره بأنّ شيئا ما ينتظره، هاجساً دفعه لترك الصخب المقيت، وسارع خطواته نحوه خشية أن تحرمه الأيام إفراغ ذاكرته منه ومن منحه الارتياح الذي فقده حين رؤيته له ! أشاح بوجهه عنه: "لا تتركهم لأجلي، ما أنا الّا عابر بحياتك وسأنسى عند الساعة الأولى التي ستغادرني بها "حين سمعه أدرك أنّه لاجئ وابن فلسطين".
ليس كل ما يصادفنا ننجح في مغادرته، بل بعض ما يصادفنا قد يكون عقاباً يحرمنا النوم وقد تكون أنت عقابي الذي أستحق؛ لا تشيح بوجهك عني، لم آتك كي أعالج سقما أدركت الآن علته، إنما منذ أول لقاء بصريّ بيننا عند البوابة، وثمّة رغبة عارمة داخلي لأحادثك.
"لكل تفصيل المرحلة، وهذه المرحلة لصمتي بينكم، فلا طاقة لي بممارسة الحديث؛ قررت الصمت على وجعي، أما أنتم فلكم حديثكم وخطاباتكم المنافقة".
اخترقت الغصة صدر والدك وكادت تخنقه والرجل يكمل حديثه: "لا حاجة لي بشعور جلبك أمامي، وقت البكاء على ذبحنا رحل، أنتم المعنيون بالنحيب طالما ضحيتم بنا على قربان المصالحة فيما بينكم " كان يخفي خلف حديثه رغبة بإيلاج والدك بدائرة الغضب، دائرة يبحث بها عن حقيقته ومدى اكتمال إنسانيته وأنّه ليس صورة مصغرة للمعنيين بصرخته المكبوتة، إضافة إلى شعور جارف بأنّ ما بداخل هذا الرجل الناضح وجعاً، أعظم من أن يحكى!.
اقترب منه مبتسما بهدوء: " بل هي مرحلة صرختك، مرحلة الانفجار الذي ننتظره، مرحلة الحق الذي لا بد أن يرتفع صوته في كل مكان، لن يكون بمقدور الصمت يوماً أن يخلق العدالة أو أن يداوي آلامنا المستترة، الصمت حسرة للذات وخيبتها، ويكفي الصمت شرفاً أنّ صوتكم وحده الأقوى والأصدق، لا يستجدي الهتافات ولا رياء الشعارات، أنتم وحدكم النضال رغم الجراح!".
التفت إليه، والدموع منهمرة من عينيه النقية التي حافظت على بريق الصدق والجمال رغم الظروف القاسية التى بدا عليها القدرة على طمس ملامح عنفوانه وكبريائه، " أين المنصتون لصراخنا يا أنت؟! إن كان من يدعي حب فلسطين هو من يخونها؟! من سرقوا حتى أحلامنا الخفية؟! صرخاتنا نعرف متى سنطلقها، فدماؤنا حرّة ولا زالت تغلي حنقاً وغضباً، بالرغم من حبالنا الصوتية الممزقة هنا، بالرغم من أنّ الكرامة هنا جريمة نرتكبها بحق وطنكم وأكبر أماني زعماءكم، هو صمتنا، إن ما بداخلي أعظم من أن يقال معك، أنا يا أنت قوي بعدد الشهداء، وبعدد الظلم الذي عشته وعايشته مع كل فلسطيني، لم يعد هناك شيئا نخسره وبالرغم من هذا ما زلنا نصرخ ونقاوم حتى لو بدونا بنظركم لا حول لنا، أنا يا أنت غنيت لابنتي سعاد في حضني: "ماما زمنها جيا جيا بعد شوية جايبة لعب وحاجات".