كان يفترض لوجعي حينها أن يتسع قليلا ويسمح للابتسامة أن تعبر، لكن لم يكن بمقدوري، فالأغنية تحبس الطريق فلم تستوعب رغبتي بأن يغنيها العالم كل العالم معي، لتهدئة طفلتي وطمأنتها بعودة والدتها في هذه المرحلة الطويلة جداً، فالأم هناك حيث حطت المجزرة رحالها في مخيم صبرا وشاتيلا، حيث تصاعدت أصوات طلقات الرصاص القريبة وكان النزف يسطو على الهوية ويصطاد الأرواح، ويزيح الديار ليتسع المكان، حيث الدماء ما زالت هناك والصرخات البكماء ما زالت تتغاوى مرارة على شفاه الشهداء، وحيث الأرواح تحبو بأوردة المخيم، تمارس ولوجها الى اليوم بأجنة العدالة التي لم تولد بعد.
سمع والدك خطابات، وقرأ مقالات وحللها وتفاعل مع الكثير مما كتب عن القضايا الإنسانية، لكن كل هذا كان كفيلا بما جعله يشعر بالتخمة، لكن أقف قاصرة عن شرح سر انجذاب والدك حين يصغي قلبه للحب الكامن في صدر عمك اللاجئ الفلسطيني أحمد وغيره من الرفاق الفلسطينين، أهو القاسم المشترك بين قلوبهم، التي تحمل الهموم والقضيةذاتها؟ غادره وهو لا يعلم أي درب يسلك وعلى من يعلن حرباً، أكان للقاء بينهما لعنة على قلب والدك فحمل خطيئتها ؟
غادره بعد أن أخذ منه وعداً وموعداً، وحينها لم يدرك كم سيحتاج من عمر، ليعود إليه وهو يحمل براءته من زعماء الوطن، لقاء ولقاء ولقاء ولم يحمل له هذه البراءة حتى مات والدك، شريكة عمره كما الكثيرات من نساء فلسطين وكما سعاد ابنة العم أحمد، يفقهن بأنهن كونا مكوّن، يشكلن بأرحامهن مناضلين ومناضلات ودماء نطفتها حبلهن السري، أما الجلود فمستأصلة من نسيج حرائرهن وأحرارهن. هناك في المخيمات ما زلوا يتحررون وهم سجناء كالعصافير، لتلبية الحرية الرحيقية على أكمل بدن وقلب، وبما أوتوا من تحد وصمود وعلم وذكاء فجرهم متكوّر ونسلهم متكرر والحاقد يندب حظه: أما آن لفلسطينيي لبنان أن تضيق الدماء بجلودهم وتستعصي بهم أمورهم فينقرضوا؟
نعم ما زالت المجازر مستمرة، وما زالوا يدشنون ثغورهم بطاقاتهم الطاغية، ليقسموا اليابس نصفين، نصف يشكلوا به دمائهم المستمدة من دماء فلسطين الداخل، ونصفٌ آخر ينتجوا به إرادة وتباشير فجر وتعريات أرض تؤرخ خطواتهم عبر التاريخ، أما الإنسانية تتمتم بخجل: بأي ذنب حقوق الفلسطيني في لبنان وئدت؟!.
خرج جواب أمي من دواة الذكرى الموحشة كالكفر بالحياة، وهل نستطيع نسيان الإيمان بها ليلة واحدة في الوجدان وجحيم الخيانات والمجازر والتعذيب والاضطهاد مجتمعة تحرق أحلام إخوتنا في المخيمات، المتورطون بكامل الظلم المنتصب كالعرجون القديم والزيتون بتعاريج أوردتهم، لتمرمر إرادتهم على أرصفة العيون، وبالرغم من الجفاف الإنساني والسنين العجاف فلا تزال أوردتهم مرطبة بالدماء الحرة، الظلم المزروع تحت جلد الجواب وفي نوايا الحاقدين كما جاء على لسان أوجع الصرخات!.
الحقد قتل كل اللغات بلغته، لكن لغة الجواب التي أحيت الشهداء استنطقت المسالك الوعرة داخلي إذ أني جرجرت أصابعي الرثة الخائبة من على أطراف دموع أمّي، وفي قلب رئتي دم المخيم وشهدائه الناسكة، فذنب صمتنا الكافر كالأوكسجين اليتيم، لا أدري كم سيلزمه إرباك السؤال من دمع وارتباك الجواب من أنفاس، كم أحتاح لإضاءة قلبي بأمل مستحيل وأعلقه في وتده النازف؟ لغة الجواب.
أحيت كل ما أسفر عنه اقتحام المخيم من ذعر وشتات وشهداء وصرخات، لتتشكل معه تراجيديا عارية تتحدث بلسان النار والحقد، وتمنح مدادي فرصته ليتحول إلى دماء إنسانية صارخة ثائرة حتى لو كان أنينه فلسطيني النسب. كيف نجى العم أحمد وابنته من هذه المجزرة؟ كيف بقي حيا وسط ركام الجثث والخراب الدامي، وكيف طاوعني قلبي على الاقتراب من هذا التساؤل الذي أرشفته ذاتي المبعثرة بين بأس واقع المخيمات في لبنان، رغم وجهها المروي بصمود وتحدي أهلها وبين ما نزف به العم أحمد هذا الإنسان الوحيد خارج المسميات، الذي حضن مع ابنته جميع تفاصيل الحشود المنطوية على قتل المخيم الحالم، في زمن المطاردة والذئاب الشمامة لروائح الفلسطيني في كل زمان ومكان. الحشود التي لم تك فقط بدلات عسكرية مرعبة، بل منبع الموت وامتداد عذاب مستمر لا مفر منه.
في عصر التهجير القسري البائس، والاضطهاد الإنساني الممتد، يموت العم أحمد، مردوماً مع الحلم المؤجل في حفرة الانتظار، وبقيت ابنته في اسمها تشير بأطفالها إلى موعد مؤجل مع الحياة في لبنان كما الحلم المؤجل بالعودة إلى فلسطين حلم لم يطهر ذاكرتنا المعتملة بأحقاد الاحتلال الصهيوني وأيتام دعايته والخونة وكوابيس المجازر في فلسطين والمخيمات في لبنان.