يقول الرعاة: لو أنها تمطر قطرة واحدة.. ينبت العشب، فنرعى خرافنا. يقول الجزارون: لو أنها تمطر فنجد ما نذبحه. يقول اللاحمون: لو أنها تمطر فنأكل لحماً طرياً. بكثير من الرومانسية أقول: لا يمكن للمطر أن يهطل في ضوء معادلات كهذه. المطر يهطل فقط، وفقط كي نمشي تحته ونحن نتأبط نساءنا، ثم نعود معهنّ إلى منازلنا ونشرب النبيذ على ضوء الشموع..
****
«أمطرت في ماكوندو أربع سنوات وأحد عشر شهراً وثلاثة أيام، حتى أهلكت الزرع والحرث، وتركت ماكوندو عبارة عن خرائب. وظلّت هكذا حتى الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الجمعة، حيث أضاءت السماء بأشعة قرمزية لشمس مترنّحة. ولم تمطر في ماكوندو مرة أخرى على مدى عشر سنوات، وقد بلغت الحرارة بعدها أن جعلت العصافير تترامى على جدران البيوت، وتشقّ ستائر النوافذ وتدخل غرف النوم، لتتساقط ميتة بالأفواج». هكذا كتب السيد غابرييل غارسيا ماركيز في «مئة عام من العزلة»، ولذلك نريد دمشق مدينة معتدلة، في هطولها المطري المنشود.
****
كنّا حفاة عندما سقط المطر. شجرة طويلة من المسرات كانت تنمو على حافة الحلم، ولكنّ أحداً ما لم يكن يعرف أنَّ الأمر سيتغيَّر بعد ثلاث سنوات وبضعة أشهر بعدد أصابع في قدم دجاجة. المهم أنَّ سحالي كثيرة، بوجوه تشبه وجوهنا المتعبة، كانت تجري لتختبئ بين الصخور.. كلبٌ شريد كان يحكّ جسده بالأرض تحت شجرة بالكاد تصنع فيئاً يكفي جسده المثقل بالضجر. وعلى بعد أمتار من مرمى البصر، تكوَّن وهجٌ للشمس، كمشروع بدائي لصناعة سراب. ولكننا، لم نكن في أيّ صحراء بتاتاً.. حقاً، إنها لغرابة مستطيرة، تلك التي دفعت الشمس لتشتدّ على هذا النحو المخيف بعد هطول مطري. بعد دقائق، سمعنا إطلاق رصاص، فجال كلٌّ منا ببصره، محاولاً الكشف عن منبع الرصاص اللامرئي. كلُّ شيء يبرق، بحيث لا يمكن بالضبط تحديد النافذة التي أطلق منها. هل كان الرصاص يستهدفنا؟.. هل كان الكلب هدف القناص؟.. لحظة واحدة كانت كافية لأعرف أنَّ سرب العصافير، الذي كان يملأ السماء على شكل غيمة لا نهائية، قد نقص الكثير من أفراده. نظرت حولي، فلم أجد من كان معي؛ كأنه تبخر أو لبس طاقية إخفاء. نظرت إلى الأرض، في المساحة الممتدة إلى ما لانهاية، فشاهدت جثث العصافير الست عشرة، كان آخرها يلفظ آخر أنفاسه وسط الجثث الهامدة والمستكينة. عاودت النظر إلى السماء، لأجد أنَّ سرب العصافير يتكاتف كأنه يتحدّى أحلامي المتساقطة فراغاً في سجل أحلام العالم. وهكذا صرت أنظر كالمسوس بين الأرض والسماء.. بين السرب العظيم وجثث العصافير الهامدة. عندها تيقَّنت، تماماً، أنَّ كل عصفور في السماء بمثابة حلم، وأنَّ كل حلم منها لإنسان، وأنَّ تلك العصافير المغدورة من قبل قاتل مجهول هي أحلامي الشخصية أنا. شمَّرت عن ساعديّ، فلاحظت كم هما نحيلتان، بشكل يثير الريبة!.. اعتقدت أنهما ساعدان لأكثر من آدمي، فبذلتا مجهوداً عظيماً واستدقّتا. أمسكت معولاً، وبدأت أحفر قبوراً لعصافيري.. لم أرغب أن يكون لأحلامي قبراً جماعياً، مخافةَ اكتشافها فيما بعد. على الأغلب، لم يرَ أحدٌ مصرعَ العصافير غيري وغير القاتل، وعلى أكتافها بصمات أصابعي، ولا بدَّ أن أتّهم يوماً ما بأني من فعل الفعلة. ما إن انتهيت من طمس معالم المجزرة، التي لم أرتكبها، حتى استرجعت ذاك الذي كان معي.. هو وهمٌ.. خيالٌ أم أحجية؟!.. فجأة لم تعد ساقاي قادرتان على المسير. شيء ما كان يصعد على جسدي (من أخمص قدمي الحافيتين)، وثبَّتني كالمسمار. انحنيت لألمس هذا الصمغ الغريب، وإذ به تراب مجبول بدم العصافير وريشها. عرفت ذلك، عندما شاهدت عين العصفور، الذي قضى نحبه أخيراً بين العصافير، وهي تغمزني وقد استقرت على ساقي، ثم انطفأت. بدوت كمن يغرق في الرمال المتحركة في الصحراء. وهكذا، من يومها وأنا هناك، في مكان لا يعرفه أحد، وأنا على هيئة صنم أبكم تحوَّل فيما بعد إلى صخرة تنحتها الريح. كم كنت ألهث عندما استيقظت من النوم. شربت كأساً من الماء، وأشعلت سيجارة، ونظرت إلى صورتك المعلقة على الجدار. عندها، أيقنت أنَّ كلَّ ذلك لم يحصل معي أنا، وأني كنت مجرد شخص نائم ويحلم بشخص يحلم. فلا يُعقل أن أكون قد فقدت أحلامي كلها، وأنت ما زلت في مكان أجهله؛ تتنفسين ذات الهواء الذي أتنفسه أنا، وسيهطل على شعرك المصفّف، بعناية فائقة، ذلك المطر الذي سيبلّل قلبي يوماً ما يوماً ما
****
بدر شاكر السياب:
ومنذ أن كنا صغاراً، كانت السماء تغيم في الشتاء ويهطل المطر، وكل عام -حين يعشب الثرى- نجوع ما مرَّ عام والعراق ليس فيه جوع مطر مطر مطر
****
كل النساء حسان، وإذا ما هطل المطر يرتدين ثياباً سميكة، ويعتمرن قبعات صوفية، ويلذن بالأشجار، أو يختبئن تحت المظلات في انتظار باصات النقل الداخلي.. يذهبن إلى منازلهن ليفضن أمومة وأخوّة. في الجامعات يمسكن أكواب النسكافيه، ويهرعن إلى الكافتيريات بأياد ووجنات محمرة.. وفي البيوت، ينظرن من النوافذ ويدفّئن الأزواج والأولاد. كلُّ الأمهات يأتينَ إلينا إلى أسرّتنا ليلاً ويغطيننا، ثم يعدنَ إلى أسرّة آبائنا، وصوت المطر موسيقا تصويرية. كلُّ شيء يحدث، والمطر مؤثرات، وصوته موسيقا تصويرية، والآباء مظلات..