عتاب الدقة
للعام الثالث على التوالي، يُحيي موقعُ بوابة اللاجئين الفلسطينيين مع جموع ضحايا النكبة الفلسطينية حول العالم هذه الذكرى المشؤومة، التي لو ما حدثت، لما كان هنالك لاجئون، ولما صار لزاماً على منابر إعلامية أن تستنفر بعد 71 عاماً على تهجيرهم من أجل التصدي لما يُحاك ضد قضيتهم من سيناريوهات بهدف إنهائها وبالتالي إنهاء وجودهم ومظلوميتهم خلال كل هذه العقود، دون أن يعود الحقُّ لأصحابه، ودون أن يُحاسَب المجرمُ وأعوانًه على جرائمهم.
حقيقةً لم يكن الوضع السياسي والوجودي للاجئين الفلسطينيين يوماً، أسوأ مما هو عليه في هذه السنوات الأخيرة، ففي العقود الأولى التي تلت نكبة عام 48، واجه اللاجئون الفلسطينيون بؤسهم عبر حلم العودة الذي كان يداعب مخيلاتهم كحقيقة حتمية مُسلحة بكفاحِ وثورة، وفصائلَ نشأت من رحم المخيمات وحملت راية التحرير، و"احتضان عربي رسمي" أو لنسمِها خجلاً رسمياً عربياً من عدم إعلان "إسرائيل" ككيان عدو، كلُّ شيء تجاهه محرّمٌ إلا المقاومة.
اليوم، بعد واحد وسبعين عاماً، كانت مليئة بالألم والتهجير والرفض والحرمان والدم في بعض الأحيان، لم يعد الوضع على حاله البتة، فالثورة التي "أطلقت الرصاصة الأولى" ألقتِ السلاح، وخلعت البزة العسكرية، لترتدي لباساً أحالها إلى سلطة من غير سلطة، ومجموعة مؤسسات تستجدي الفُتات من الهبات والمساعدات لتبقى على قيد حياة، وبين السلطة والمؤسسات ضاع حلم الدولة بعد أن تاهت في سراديب المفاوضات قضايا رئيسيةٌ أبرزها قضية اللاجئين.
وهي قضية لطالما مثّلت الوجه الآخر للنكبة، استحالت بعد ربع قرن على توقيع اتفاقية أوسلو، وتماهي منظمة التحرير بالسلطة، إلى واحد من الملفات التي أفرزها تردي وضعف الموقف السياسي الفلسطيني والعربي المتصاعدَين مع مرور السنين، كملف الإنقسام الداخلي، وملف التنسيق الأمني، وملف الانتخابات التشريعية، وملف حصار غزة وغيرها الكثير ..
وإذا ما أضفنا وهن المستوى الرسمي والفصائلي الفلسطيني في إيجاد حلول لهذه الملفات الداخلية والدولية، إلى "القباحة" المستجدة علناً للموقف الرسمي العربي في التعامل مع القضية الفلسطينية، سنتمكن من إدراك الخطورة التي تعصف بحقوق الفلسطينيين وفي مقدمتهم اللاجئون الذين تجاوز عددهم اليوم ستة ملايين حول العالم.
فانهيار قيم كانت سائدة في عقود مضت حول العلاقة مع الاحتلال، واستحالة التطبيع إلى أمرٍ معلن، وزياراتٍ رسميةٍ كما في عُمان، واستقبالِ وفود إسرائيلية ويهودية أمريكية كما في الإمارات والسعودية، وأخرى رياضية كما في قطر، وانزلاقٍ في السياسات الخليجية إلى مواقف ارتهان كامل وخضوع مطلق للإدارة الأمريكية بقيادة المتطرف جداً دونالد ترامب، ولعب أدوار في تأجيج الصراعات في المنطقة، وتغذية محاولات سرقة ثورات الشعوب وتخريبها، كل ذلك دُفع ثمنُه من دم الشعوب العربية نفسها، ومن فلسطين وحقوق شعبها.
والحال هذه لم تعد فلسطين، ولا حتى إعلامياً، القضية المركزية للأمة العربية، وماعادت متوقعةً أيُّ مناهضة عربية للتحركات الإسرائيلية -المدعومة روسياً وأمريكياً وعربياً- في تحصيل مزيد من المكتسبات عبر الإدارة الأمريكية واللوبي الصهيوني المسيطر في الكونغرس، وهي الفرصة الذهبية التي لن تعوض لحكومة بنيامين نتنياهو الممعنة في اليمينية والتطرف من أجل تحقيق ما حلمت به "إسرائيل" طويلاً، وهو التخلص من كل ما يعكر صفوها عربياً، ومن تمثيليةِ المفاوضات وقضايا الحل الدائم فيها القدس، الحدود، واللاجئون.
وبينما يجري على قدم وساق، تنفيذ ما يُسمى بـ"صفقة القرن" قبل الإعلان عنها، يترقب اللاجئون الفلسطينيون، كل في مخيمه ومكانه، وسط معاناته المختلفة اختلاف التوزع الجغرافي والسياسي، مآلات مصيرهم.
هجروا من المخيمات الفلسطينية في سوريا بعد قصفها وحصارها، ويواجهون تهديد إنهاء عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" وخدماتها في سوريا ولبنان والضفة والأردن وغزة، ويحاولون توقع السيناريوهات المرسومة لهم كالتوطين في بلدان إقامتهم ربما، أو نقل ملفهم إلى مفوضية شؤون اللاجئين، ما يعني تحولهم إلى لاجئين كسائر لاجئي العالم، ذوي قضية "إنسانية" فقط لهم الحق في المساعدات وإيجاد مكان عيش لائق، وليست سياسية ووجودية لهم فيها الحق بوطن وأرض وسماء وهواء.
قد يصطدم هذا الحق مع كل المعطيات السياسية الراهنة، لكن من يضمن صمت شعب ذاق المرَّ والعلقم، وكَفر بالفصائل الفلسطينية والأنظمة العربية والسياسات الدولية؟؟
وإن كان "الخضوع" سمةً غلبت ربما على القيادة الفلسطينية، إلا أنها من المستحيل أن تغلب على شعب كامل، سيجد أسلوبه وطريقه، ولن يسمح بأن تنتهي نكبته المستمرة، والدماء والألم اللذين بُذلا طيلة سنيها، بصفقة مذّلة.