يعتبر قرار تقسيم فلسطين، ذو الرقم 181، والصادر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1947، أكبر منحة قدمها المجتمع الدولي للحركة الصهيونية. لقد منح هذا القرار العصابات الصهيونية غطاء للقيام بعمليات التطهير العرقي وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، تحت حجة إنشاء "الدولة اليهودية" التي أقرتها الأمم المتحدة.

تعود روحية فكرة تقسيم أرض فلسطين التاريخية إلى "وعد بلفور" الصادر عام 1917، والذي تعهدت بموجبه بريطانيا العظمى بـ "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين". فإقامة ذلك "الوطن"، يعني إما بتر أراضي من فلسطين، أو إعطاؤها كلها، لصالح الصهاينة.

سقوط قرار التقسيم المطروح من قبل اللجنة الملكية

بدأ التقسيم، من الناحية العملية، مع اللجنة الملكية، المعروفة بـ "لجنة بيل"، المرسلة من قبل بريطانيا للنظر في الأسباب التي أدت إلى الثورة العربية الكبرى في فلسطين.

وصلت اللجنة إلى فلسطين في 11 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1936، وقرر الفلسطينيون مقاطعتها عقب إعلان وزير المستعمرات البريطاني، أورمبسي غور، استمرار الهجرة اليهودية، لكنهم عدلوا عن قراراهم، واتصلوا باللجنة، جراء الضغط العربي. وفي 7 من شهر تموز/يوليو عام 1937، قدمت اللجنة تقريرها وانتهت إلى أن "التقسيم هو سبيل السلام".

فور الإعلان عن مضمون تقرير اللجنة الملكية، أكد الفلسطينيون، ومعهم الدول العربية، رفضهم مشروع التقسيم جملة وتفصيلاً، كما شدد المؤتمر الصهيوني في عام 1937 على أن "الخطة التطبيقية للتقسيم التي اقترحتها اللجنة الملكية غير مقبولة.

وعلى إثر هذين الرفضين، تجددت الثورة الكبرى في أواخر أيلول/سبتمبر عام 1937، وشرعت السلطات البريطانية، عقب اغتيال حاكم لواء الجليل لويس أندروز في الناصرة في 26 أيلول/سبتمبر 1937، بحملات بطش وتنكيل شديدة ضد الفلسطينيين، وحلّت اللجنة العربية العليا وجميع اللجان القومية وأعلن عدم قانونيتها، كما أُقصي المفتي أمين الحسيني عن منصبه وحُل المجلس الإسلامي وسُلمت إدارة ممتلكاته إلى لجنة موظفين حكومية.

واللافت في الثورة المتجددة، أنها، وعلى عكس الجزء الأول منها عام 1936، لم تستثن الإنكليز من دائرة الاستهداف، بل جعلت الصهاينة والإنكليز ضمن دائرة استهدافاتها، وأدرك الفلسطينيون، أن بريطانيا هي الحامية للمشروع الصهيوني، ولولاها لما كتب لهذا المشروع أن يتم.

لكن التطورات على الساحة الدولية، جعلت بريطانيا متيقنة بحصول حرب عالمية ثانية، ما يعني أنها ستكون بحاجة إلى جيوشها المنهكة في قتال الفلسطينيين، وباتت تهدئة الأوضاع في فلسطين مطلباً أساسياً. وبناء على هذه التقديرات، أرسلت بريطانيا لجنة فنية برئاسة السير جون وودهد في 27 نيسان/أبريل عام 1938، لدراسة أوضاع البلاد ومدى إمكانات نجاح مشروع التقسيم من عدمها.

وإثر عودتها إلى لندن، أعلنت اللجنة في تقريرها وجود عقبات وعوائق عديدة تحول دون تنفيذ مشروع التقسيم. وفي 9 من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1938، أصدرت الحكومة البريطانية بياناً رسمياً أعلنت فيه عدولها عن مشروع التقسيم، معترفة بأن "اقتراح التقسيم وقيام دولتين عربية ويهودية هو حل غير عملي". كما كشفت عزمها عقد مؤتمر في لندن، تدعو فيه ممثلين عن عرب فلسطين، وعن الدول العربية، وعن اليهود، لدراسة القضية.

وهكذا، سقط مشروع التقسيم المقترح من قبل اللجنة الملكية على أيدي الثوار في الميدان، ونتيجة الأجواء الدولية الموحية بحرب عالمية جديدة.

"الكتاب الأبيض"

افتتح مؤتمر لندن، المعروف بـ "مؤتمر المائدة المستديرة"، في السابع من شهر شباط/فبراير عام 1939، بمشاركة حكومات مصر، العراق، السعودية، اليمن وإمارة شرق الأردن، إضافة إلى ممثلين عن عرب فلسطين (رفضت الحكومة البريطانية مشاركة المفتي أمين الحسيني المنفي في لبنان)، وممثلين عن الوكالة اليهودية. رفض العرب إجراء أي اتصال رسمي بممثلي اليهود، فكانت الحكومة البريطانية تجتمع مع العرب صباحاً، ومع اليهود في المساء.

لكن بريطانيا فشلت في إيجاد صيغة مشتركة يتفق عليها الجانبان، لتعلن بعد المؤتمر أنها ستنفذ ما تراه مناسباً، حتى ولو لم يقبله الطرفان. وفي أيار/مايو، أصدرت الحكومة بيانها المعروف بـ "الكتاب الأبيض" أو "مذكرة ماكدونالد"، وجاء فيها أن:

  • بريطانيا غير عازمة على إقامة دولة يهودية في فلسطين.
  • إقامة دولة فلسطينية بعد عشر سنوات، يتقاسم فيها العرب واليهود المسؤولية والسلطة بما يحقق مصالح الطرفين.
  • تحديد الهجرة اليهودية خلال الخمس السنوات التالية بعشرة آلف مهاجر سنوياً، إضافة إلى 25 ألفاً يسمح لهم بالهجرة فوراً. وعقب هجرة هؤلاء الـ 75 ألفاً، تتوقف الهجرة اليهودية، ولا تتم إلا بموافقة العرب، بشرط ألا يزيد عدد اليهود عن ثلث السكان.
  • وقف بيع الأراضي نهائياً إلى اليهود في فلسطين إلا في مناطق محددة، ضمن شروط لا تضر بالفلسطينيين، حسب رأي المندوب السامي البريطاني.

لم يوافق الفلسطينيون على الكتاب الأبيض، بل استنكروه، باعتبار بريطانيا تخلفت عن منحهم الاستقلال وأعطت اليهود حق نقضه، كما أكدوا أنهم لا يثقون بنوايا الحكومة البريطانية. بالمقابل، أكد الصهاينة محاربتهم الكتاب الأبيض بكل ما أوتوا من قوة.

الدخول الأمريكي على خط القضية الفلسطينية

بعد إصدار الكتاب الأبيض، حملت الصهيونية العالمية على سياسة بريطانيا الجديدة في فلسطين، وانتهزت الحرب العالمية الثانية لإجبار بريطانيا على إلغائه، وعملت على كسب ود الولايات المتحدة، التي لم تكن قد دخلت الحرب العالمية الثانية بعد، ولأنها، وفي حالة دخولها، سيكون لها الأثر الأكبر في تحديد كفة المنتصر.

بدأ الانتقال الصهيوني إلى القوة الجديدة الصاعدة جلياً إثر زيارة قام بها زعماء صهاينة، على رأسهم بن غوريون وحاييم وايزمان، إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وبدءاً من تلك اللحظة، انكبت الجهود الصهيونية لـ "تسخير" النفوذ الأمريكي لصالحهم، كما سخّروا بالأمس، نفوذ بريطانيا العظمى لتحقيق مآربهم، وهو ما سيكون له بالغ الأثر في تبني قرار التقسيم عام 1947، كما سنرى.

في العام 1945، تولى حزب العمال الحكم في بريطانيا، وتوالت الاتصالات بينه وبين إدارة الرئيس الأمريكي هاري ترومان، وانتهت بإشراك الولايات المتحدة رسمياً في بحث القضية الفلسطينية، عبر تشكيل "اللجنة الانكلو أمريكية" لتعيد النظر في القضية الفلسطينية في ضوء البحث عن حل للمشكلة اليهودية الأوروبية الناجمة عن المذابح النازية لليهود.

جاء تقرير اللجنة مسانداً بشكل تام للصهاينة، إذ دعا إلى التصريح الفوري بإدخال مئة ألف يهودي إلى فلسطين، وإطلاق حرية التصرف بالأراضي، وأن يكون واضحاً أن فلسطين لن تكون دولة يهودية ولا دولة عربية، وأن الدستور يجب أن لا يجعل الكلمة العليا للكثرة العددية، موصياً بأن تتولى الدولة المنتدبة إدارة فلسطين وفق صك الانتداب الذي يضمن تسهيل الهجرة اليهودية.

مؤتمر لندن 1946: آخر المحاولات البريطانية

وجراء الرفض الحكومي والشعبي العربي الواسع لمقررات "اللجنة الانكلو أمريكية"، دعت الحكومة البريطانية، مستجيبة لطلب الجامعة العربية، إلى عقد مؤتمر في لندن في 10 أيلول/سبتمبر عام 1946 للمفاوضة لحل قضية فلسطين.

عرضت بريطانيا، خلال الدورة الأولى للمؤتمر، مشروع "النظام الاتحادي"، أو "مشروع موريسون"، الذي يقسم فلسطين إلى 4 مناطق إدارية: منطقة عربية، منطقة يهودية، النقب، والقدس، على أن يقوم في كل من المنطقتين العربية واليهودية استقلال ذاتي، وتقوم حكومة مركزية مختلطة شاملة للمنطقتين، وبالطبع، لاقى المشروع رفضاً عربياً صريحاً.

في الدورة الثانية، عرضت الحكومة البريطانية مشروعاً آخر، عرف بـ "مشروع بيفن"، اقترحت بموجبه استمرار الوصاية البريطانية على فلسطين خمس سنوات تعد خلالها البلد للاستقلال، وتنشأ خلالها حكومات ومجالس محلية عربية ويهودية ذات استقلال ذاتي مع حصر الهجرة اليهودية في المنطقة اليهودية بحسب قاعدة "الاستعياب الاقتصادي"، ما لاقى رفضاً عربياً وصهيونياً على حد سواء.

ومع استمرار أعمال العنف الصهيونية ضد حكومة الانتداب في فلسطين، وعدم تعاون العرب معها لفقدانهم الثقة، إلى جانب الضغط الأمريكي على الحكومة البريطانية لصالح الصهيونيين، أعلنت الحكومة البريطانية، في 18 شباط/فبراير 1947، أنها لا تستطيع الاستمرار في انتدابها على فلسطين، ولذلك فإنها تعتزم رفع القضية إلى الأمم المتحدة.

القضية الفلسطينية على طاولة الأمم المتحدة

في 2 نيسان/أبريل عام 1942، وجهت بريطانيا كتاباً إلى السكرتير العام للأمم المتحدة تدعوه فيه إلى دعوة الهيئة العمومية إلى عقد دورة استثنائية من أجل تأليف لجنة خاصة لبحث المشكلة  الفلسطينية. وكانت تلك الجلسة أول جلسة للأمم المتحدة تعقد بهذه الصفة.

انعقدت الدورة الخاصة في 28 نيسان/أبريل عام 1947، وعرض ممثلو الهيئة العربية العليا والوكالة اليهودية آراءهم في القضية، لتقرر الجمعية العامة في 7 أيار/مايو، تشكيل لجة تحقيق دولية  لـ "التثبت من الحقائق". وتألفت اللجنة من ممثلين عن أستراليا، كندا، تشيكوسلوفاكيا، يوغوسلافيا، غواتيمالا، الهند، هولندا، إيران، بيرو، السويد وأوروغواي. والملاحظ في تشكيل اللجنة أن أياً من الدول الكبرى لم تنضم إليها، كما أنها كانت في غير مصلحة العرب، إذ أن معظم الدول الأعضاء متأثرون بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية وبالصهيونية العالمية.

رفعت اللجنة تقريرها إلى الأمم المتحدة في 31 آب/أغسطس 1947، وتضمن مشروعان: مشروع حظي بموافقة الأكثرية ويقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وآخر، حظي بدعم الأقلية، ويقضي بإنشاء دولة اتحادية.

قضى مشروع الأكثرية بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية، تتألف من الجليل الغربي ومنطقة نابلس الجبلية والسهل الممتد من أسدود جنوباً إلى الحدود المصرية، وتدخل فيها مناطق جبال الخليل وجبل القدس وغور الأردن؛ ويهودية، تتألف من الجليل الشرقي ومرج ابن عامر والقسم الأكبر من السهل الساحلي ومنطقة بئر السبع بما فيها النقب. وتصبح الدولتان، بموجب المشروع المطروح، مستقلتان بعد مرحلة انتقالية لعامين، ويجب عليهما الموافقة على دستور كل منهما، وتوقيع معاهدة توطيد النظام والتعاون الاقتصادي، وإقامة اتحاد اقتصادي بهدف استثمار المرافق عامة. وتتولى بريطانيا الحكم في المرحلة الانتقالية تحت إشراف الأمم المتحدة، مع اشتراط قبول 150 ألف مهاجر في الدولة اليهودية المقترحة. أما القدس، فتوضع تحت نظام الوصاية الدولية. وتبلغ مساحة الدولة العربية المقترحة 12 ألف كيلو متر ربع لا يملك اليهود منها إلى نحو مئة كليو متر مربع وفيها 650 ألف فلسطيني و11 ألف يهودي، بينما تصل مساحة الدولة اليهودية المقترحة إلى 14,200 كيلو متر مربع، يملك العرب ثلثي اراضيها وفيها 509 آلاف فلسطيني و499 ألف يهودي.

أما مشروع الأقلية، الذي أيده ممثلو الهند وإيران ويوغوسلافيا، فيقضي بقيام حكومتين في فلسطين مستقلتين استقلالاً ذاتياً، وتتألف منهما دولة اتحادية عاصمتها القدس، وينتخب مجلس تأسيسي لوضع الدستور. وبالنسبة للهجرة اليهودية، فإنها تكون حصراً في المنطقة اليهودية، ضمن نطاق استيعاب تقرره لجنة تشكل من تسعة أعضاء، ثلاثة من العرب، ومثلهم من اليهود، إلى جانب ثلاثة مندوبين عن الأمم المتحدة.

رفضت الهيئة العربية العليا، ومعها جامعة الدول العربية، تقرير اللجنة، وعمّت التظاهرات الاحتجاجية البلاد العربية.

إقرار التقسيم تحت الضغوط

كان إقرار قرار التقسيم في الجمعية العامة للأمم المتحدة يحتاج إلى موافقة ثلثي الأعضاء. ولو جرى التصويت في 26 تشرين الثاني/نوفمبر، فمن الأرجح أنه ما كان يمكن التوصل إلى أغلبية الثلثين. لكن الولايات المتحدة، وحينما أيقنت أن المشروع لن يمر، بادر وفدها إلى اقتراح تأجيل التصويت إلى ما بعد "عيد الشكر"، الذي سيكون في اليوم التالي، علماً أن هذا اليوم، لم يكن عيداً رسمياً في الولايات المتحدة حينها، ولكن الغاية تمثلت في كسب الوقت للضغط وحشد مزيد من المؤيدين لمشروع التقسيم. وبالرغم من الرفض العربي لهذا الاقتراح، إلا أن، رئيس الجمعية العامة البرازيلي ازوالدو ارانيا، المؤيد للسياسات الأمريكية والصهيونية، أعلن تأجيل الجلسة إلى ما بعد "عيد الشكر".

كانت الضغوط الأمريكية والصهيونية تتجه نحو 6 دول أعلنت رفضها قرار التقسيم، وهي: هايتي، ليبيريا، الفلبين، الصين، إثيوبيا واليونان. استخدم طاقم البيت الأبيض القوة الأمريكية لترجيح كفة الميزان، إذ هدد مستشارو الرئيس الفلبين بالعقوبات إذا لم تصوت لصالح القرار، فيما أُبلغت ليبيريا، أن شركة "فايرستون" سوف تختزل استثماراتها في البلد في حال لم توافق على قرار التقسيم. كما تعرضت وفود أمريكية جنوبية أخرى إلى التهديد، بينما، جرى شراء أصوات دول أخرى مقابل بضع عشرات من آلاف الدولارات. حاولت الولايات المتحدة إغراء اليونان بالأموال أيضاً، لكنها، بدلت امتناعها عن التصويت إلى التصويت بالرفض.

وكان لافتاً أنه على الرغم من خلافاتهما الدائمة حينها، فقد أيدت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مشروع قرار التقسيم الذي اقترحته أكثرية أعضاء لجنة "يونسكوب".

عقدت الجمعية العامة جلستها في اليوم المحدد للتصويت فنجحت في الحصول على أغلبية الثلثين، حيث أيد القرار 33 دولة، بينها 8 دول غيرت تصويتها من الرفض أو الامتناع إلى التأييد، وهي: فرنسا، بلجيكا، لوكسمبورغ، نيوزلندا، هايتي، ليبيريا، غواتيمالا والفلبين، فيما رفضت القرار 13 دولة، وامتنعت عن التصويت 10 دول.

وبذلك أقر قرار التقسيم وحمل الرقم "181"، وبات للصهاينة ذريعة قانونية مدعومة من الأمم المتحدة لاحتلال الاراضي الفلسطينية وتهجير سكانها.

كان قرار التقسيم ركيزة أساسية فيما شهده فلسطين، في العام التالي لصدوره، من أعمال تطهير عرقي طالت غالبية القرى الفلسطينية، وتسبب بأحد أبرز تعقيدات القضية الفلسطينية، وهي قضية اللاجئين الفلسطينيين، الذي هجروا إلى الدول المجاورة وأصقاع العالم المختلفة جراء ما طالهم من الإرهاب الصهيوني.

 

(المعلومات الواردة أعلاه هي مختصر لبحث مفصل أعده "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" حول حيثيات قرار التقسيم ومضمونه ومجريات التصويت عليه في الأمم المتحدة)

خاص/بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد