عوامل معيشيّة وأمنية مركّبة، تراكمت و تكاثفت على كاهل اللاجئ الفلسطيني في سوريا بعد ما يقارب 10 سنوات من عمر الأزمة السوريّة، لتصل إلى حدّ باتت تشكّل عوامل هرب حادة ومزمنة في ذات الوقت، قد توازي من حيث نتائجها، الموجة الأولى من الهجرة التي كانت جرّاء الهروب المباشر من الحرب والحصار والتدمير.

أرقام لجوء استقرّت نوعا ما حتّى العام 2018، منذ أن وضعت التسويات رحالها في مناطق مخيّمات وتجمّعات اللاجئين الفلسطينيين التي طالتها الحرب، وتهجير عدد من أبنائها قسريّاً إلى الشمالي السوري، واستتباب الأوضاع الأمنية نسبّياً، ليعيش اللاجئون الفلسطينيون الذين تبقّوا داخل مناطق النظام على آمال تصحيح الأوضاع، والانطلاق من جديد لحياة مستقرّة لا يضطرون فيها اختبار المزيد من النكبات والهجرات.

 إلّا أنّ الواقع اليوم ونحن على أعتاب العام 2021، يشير إلى استمرار نزيف ذلك الوجود الفلسطيني، وان صَعُبت الطرق وازدادت خطورةً الّا أنّ مغامرة الهرب من الواقع المزري، تستحق كل المخاطرات في سبيلها حسبما رصد "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" من تجارب لهاربين جدد، لكنها قذفت بهم إلى ويلات جديدة، بأيدي مهربين وتجّار ومتواطئين، في الشمال السوري.

ليحافظ على شبابه قرر الهجرة من الحجيم

"رائد" شاب من مخيّم جرمانا للاجئين الفلسطينيين بريف العاصمة السوريّة دمشق، لم يتوانَ حين سمع من مجموعة أصدقاء له، عن مهرّب يستطيع تأمين هربهم إلى تركيّا، من الولوج أكثر في التفاصيل وجعل تحقيق هدفه بالهجرة، همّ حياته، مهما كبرت المخاطر وعلت التكاليف، ليستقر به الحال في الشمال السوري بانتظار فرج ما.

ولعلّ هذا الشاب اليافع الذي يبلغ من العمر (17) عاماً، و طلب التعريف عنه باسم مستعار خوفاً من إعادته إلى مناطق النظام، يمثّل عنواناً لأحد أبرز أسباب هرب الشبّان، حيث تشير المعطيات التي تلاها لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين" بأنّ هذه الشريحة هي الأكثر ميلاً نحو الهجرة، فهو قد قرر ذلك ليحافظ على شبابه، كما عبّر حرفيّاً، حيث لا ينتظره في سوريا سوى محرقة الخدمة العسكريّة، والتي إن لم تقتله ماديّاً، ستأكل شبابه وترميه على قارعة الطريق، ليطعم ما تبقّى من مرحلته الحيوية إلى البطالة وتوابعها من قهر ومرض وموت بطيء.

يقول "رائد" إنّ حياته في سوريا وتحديداً في مخيّم جرمانا، لم يعد فيها ما يحفّز للاستمرار، فلا يوجد في الأفق سوى سوقه إلى الخدمة العسكريّة الالزاميّة في صفوف "جيش التحرير الفلسطيني" ولا سيما بعد أن ترك الدراسة في المرحلة الإعداديّة، لعدم توفّر الظروف المناسبة للاستمرارها وفقدانه الجدوى من ذلك، واضطراره للعمل من أجل إعالة اسرته، وهو أكبر ابنائها سنّاً، حيث لا يكفي دخل والده الذي يعمل موظفاً حكوميّاً لمصاريف المعيشة، في ظل انهيار الأوضاع الاقتصاديّة وغلاء الأسعار، وانهيار الفارق بين الفقراء والميسورين، ولم يعد استمراره يعني سوى الانصياع للتجنيد الإلزامي.

بدأت رحلة "رائد" منذ أكثر من 6 أشهر وتحديداً في حزيران/ يونيو، بعد أن التقى مع المهرّب في مدينة جرمانا، برفقة مجموعة من أصدقائه جلّهم من السوريين الذين يشاركونه دوافعه، ولم تَحُل التكاليف الباهضة التي طلبها لقاء إيصالهم إلى تركيا من التخلّي عن هدفه.

عائق تغلّب عليه "رائد" بالاستعانة بأحد أخواله الذي هاجر في العام 2014 مع أبنائه ووصل إلى المانيا، الذي أعانه بمبلغ 1600 دولار، كان قد طلبها المهرّب لقاء ايصاله إلى تركيا، فيصف رحلته بأنّها هروب من الجحيم باتجاه المجهول، الذي بدأ يتلّمس معالمه منذ أن غادر مخيّم جرمانا باتجاه حلب، ليعيش فصلاً جديداً متواصلاً لم تكن بالحسبان.

تاجروا بنا ورمونا في المجهول

"كان الاتفاق مع المهرّب على أن ينقلنا من جرمانا إلى حلب، ومن هناك يؤمّن لنا الطريق باتجاه بلدة أعزاز في ريف حلب الشمالي الخاضعة لسيطرة المعارضة السوريّة ومنها ينقلنا إلى الجانب التركي وتحديدا غازي عنتاب، عبر طريق وصفه لنا بالمضمون، لأجرّب حظي بالولوج إلى أوروبا" يقول رائد، ويتابع تفاصيل ما وصفها برحلة النصب والمتاجرة.

ولعلّ ما وفّر للشاب ورفاقه بعض الطمأنينة، أنّ المهرّب الذي يُدعى " أبو ناصر" كان مقرّباً من عناصر "الدفاع الوطني" وهي ميليشيا تابعة للنظام السوري، ولا يحتاج الحاصلون على تغطيتها الكثير من الجهد لتسير أمورهم وفق ما يُرام طوال الرحلة باتجاه مدينة حلب، وهذا ما حدث بالفعل، اذ يؤكّد "رائد" أنّ رحلتهم كانت ميسّرة وفق تعبيره، حيث لم يعترضهم أيّ حاجز عسكري أو أمني للنظام، منذ أن ركبوا بسيارة خاصّة من حي الروضة في مدينة جرمانا، حتّى وصلوا مدينة حلب، وهناك جرى ايداعهم في شقّة مكوّنة من 3 غرف بمنطقة سيف الدولة وسط المدينة.

في الشقّة، انضمّت المجموعة المكوّنة من 5 أفراد، إلى شخصين كانا مسبقاً في الشقّة، وكانا مُهاجرين من مدينة حمص السوريّة،  حسبنا قال "رائد" لتبدأ مشاعر الريبة تغزوا عقله، منذ أن طلب المهرّب "أبو ناصر" الذي رافقهم طوال الرحلة، المبلغ منه، لأنّه يريد دفع تكاليف تهريبهم إلى أعزاز، وإرسال جزء منه إلى مهرّب آخر سيتولى نقلهم إلى تركيا حسب تبريره.

يقول "رائد" إنّه لم يكن بوسعه سوى الانصياع لطلب المهرّب، فلاشيء يمكن أن يفعله ولا خيار بديل سوى أن يدفع المبلغ وينتظر ما سيحدث، فالاتفاق السابق كان ينص على تسليم المبلغ إلى شخص مفترض أنّه سينقلهم إلى الحدود التركيّة من أعزاز، الّا أنّ الأجواء الأمنية المرعبة التي كانت تحاوطهم من جميع الجهات، لم تدع لهم خياراً سوى القبول.

تواطؤ لتهريب البشر عبر المعابر

مرّ يومان على وجودهم في الشقّة، وحلّ يوم الجمعة، وهو اليوم الذي حدده لهم المهرّب للانطلاق فجراً، إلى الوجهة المتفق عليها، حيث ركبوا سيّارة من نوع "ميكرو باص" وانطلقوا باتجاه أعزاز، عبر سلوك طريق مرّ بهم عبر بلدة كفر حمرة ومنها باتجاه نبّل، ثم باتجاه قرية تدعى "براد" حيث جرى انزالهم من السيارة، ونقلهم إلى شاحنة محمّلة بحاويات بضائع وصناديق، "لنتفاجأ بأننا على مشارف مناطق سيطرة المعارضة السوريّة"، يقول "رائد"، لتعبر بهم الشاحنة من معبر تعلوه أعلام المعارضة والأعلام التركيّة، "وبدا سائق الشاحنة الذي استلمنا من المهرّب، واثق من إمكانية عبوره للحاجز بكل أريحية، ونبّهنا اذا سألنا أحد أن نقول له بأننا عمّال عتالة _ شيالين" حسما أضاف.

ذات الشاحنة عبرت بهم إلى مدينة عفرين غرباً، وجرى انزالهم هناك، وطلب منهم سائق الشاحنة الانتظار في الشارع ريثما تأتي سيّارة لتقلّهم إلى أعزاز، على أن يستقبلهم هناك من يقلّهم إلى مدينة غازي عنتاب التركيّة، وفق مسار رحلة التهريب المتفّق عليه مذ كانوا في جرمانا، الّا أنّ الحافلة التي حطّت بهم في أعزاز تركتهم في انتظار حتّى اليوم، وهو عالق بانتظار فرج ما، " وجرى رمينا في أعزاز بعد أخذ مالنا" يؤكّد "رائد"، فيما وصفه بعمليّة نصب جرت بالتواطؤ بين المهرّب والجهات التي تغطيه، وعناصر "الجيش الوطني السوري" التابع للمعارضة الذي غضّ النظر عنهم لدى عبورهم معبر " براد" "ما يشير إلى أنّ الجميع قبضوا من مالنا" بحسب "رائد" ورمونا في المجهول وفق ما أضاف.

في أعزاز جمعهما التحقيق في نقطة أمنية

في أعزاز، التقى " رائد" بـ "عبد الله" وهو لاجئ فلسطيني آخر من مخيّم النيرب في حلب، يبلغ من العمر ( 45) عاماً متزوّج ولديه طلفتان، قرر هو الآخر الفرار من النيرب، بحثاً عن حياة كريمة في القارة الأوروبيّة، عسى أن يوفّق بلم شمل أسرته، قبل أن تتقّطع به السبل في أعزاز، والتي بات يصفها البعض بـ "محطّة التشرّد ونقطة نهاية الأحلام".

"بوابة اللاجئين الفلسطينيين" تواصل مع "عبد الله" الذي بدت قصّته  لا تختلف من حيث عوامل الهرب، "فلا مستقبل في مخيّم النيرب ولا أمل بحياة كريمة لأطفالي" حسبما قال لموقعنا، فهناك الخيارات تتراوح بين الجوع في ظل انعدام مقوّمات الحياة، بفعل غلاء الأسعار وشحّ مصادر الدخل، وانتشار البطالة، عدا عن الظروف الحياتية في ظل انعدام الخدمات العامّة والصحيّة.

يقول "عبد الله" إنّ الحياة لم تتحسّن في سوريا وفي حلب بالأخص، بعد انتهاء الحرب، بل دخلنا في حرب أخرى، وفق قوله، موضحاً أنّ معركتنا انتقلت من الحفاظ على حياتنا من القذائف التي كانت تتبادلها الأطراف المتحاربة، إلى الكفاح من أجل تأمين حبّة دواء لأطفالنا، مشيراً إلى أنّ رعب انتشار فايروس "كورونا" عزز من عوامل الهرب، فالمستشفيات عاجزة، وتأمين الدواء بات حلماً، فرعبه على مستقبل طفتليه وزوجته، دفعه لخوض المجهول، في سبيل الهرب من البلاد.

مضى على وجود " عبد الله" في أعزاز نحو 4 أشهر، بعد أن تركه المهرّب فيها، حاول خلال هذه المدّة العبور إلى تركيا، وفشل مرتّين، لعدم توفّر لديه المال الكافي لسلوك "الطرق المضمونة"، وفي إحدى محاولاته تعرّض للاعتقال، ليتعرّف على رائد في نقطة تابعة لـ " شرطة مكافحة الإرهاب" التابعة للمعارضة السوريّة، والتي تشتبه بالقادمين من مناطق سيطرة النظام، وتقوم باعتقالهم للتحقيق معهم، ويحال اليها من يحاولون الهرب عبر الحدود.

"رائد وعبد الله" أمضيا في النقطة المذكورة سويةً نحو أسبوع، وجلّ التحقيق معهما تركّز حول ما اذا عملا مع النظام السوري أو فصائل فلسطينية موالية قبل المجيء إلى أعزاز. وخلال التحقيق استطاع رائد تحصيل إفراج سهل، نظراً لصغر سنّه، بينما بقي "عبد الله" أكثر من 20 يوماً، بسبب توجيه له تهمة الانتماء لميليشيا " لواء القدس" التي تسيطر على منطقة النيرب ومخيّمها، وتعتبر رأس حربة للنظام في قتال مجموعات المعارضة على تخوم مناطق سيطرتها، وهو ما صعّب الأمر عليه في إثبات براءته من تلك التهمة، قبل أن يتدخّل أحد الضباط الذي بدا متعاطفاً معه، ما افضى ذلك إلى إطلاق سراحه، حسبما أكّد.

الاشتباه يزيد المعاناة..والفلسطيني ليس له أحد

في هذا الصدد، تواصل "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" مع أحد الناشطين الفلسطينيين المشتغلين في شؤون الفلسطينيين المهجّرين إلى الشمال السوري،  الذي أوضح لموقعنا حجم الصعوبات التي تعترض الفلسطينيين الفارين حديثاً من مناطق النظام، والتي تقابلهم بها فصائل المعارضة السوريّة المسلّحة، وتُضاف إلى جملة ماعانوه من المهرّبين خلال رحلة هربهم من مناطقهم ومخيّماتهم.

وأكّد الناشط، انّ عشرات القصص المشابهة شهريّاً ترد إلى مناطق الشمال السوري، سواء لسوريين أم لفلسطينيين فارّين مؤخّراً من مناطق النظام، ويرمي بهم المهرّبين في أعزاز أو عفرين، ويتركوهم إلى مصير مجهول، في إطار عمليّة تجارة واضحة لتهريب الناس وسرقة أموالهم مستغّلين حاجتهم للهرب، حسب قوله.

وأشار الناشط، إلى أنّ اعتقال القادمين الجدد من قبل الشرطة العسكريّة التابعة للمعارضة، أو من قبل أحد الفصائل المسلّحة، أو جهاز مكافحة الارهاب، يطال الجميع سواء سوريين أم فلسطينيين، الّا أنّ الفلسطيني ليس له من يسأل عنه، ولهذا يتعرّض لضغوطات أكبر وأيّام حجز أطول خلال التحقيق.

وذكر كذلك، أنّ الشرطة العسكريّة اعتقلت في تشرين الأوّل/ اكتوبر الفائت، نحو 4 فلسطينيين من مخيّم حماة، ولم يجر الافراج عنهم، حتّى جرت تزكيتهم من قبل فلسطينيين من المهجّرين قسراً على يد النظام ولديهم علاقات جيّدة مع فصائل المعارضة، لافتاً إلى أنّ من لديه حظّ جيّد يجد من يزكيه، بينما آخرون يمضون اوقاتاً طويلة دون أن يعلم عنهم أحد، حسبما أكّد.

ظروف قهر، تحيط باللاجئين الفلسطيينين كما السوريين في البلاد، التي تحوّلت إلى مكان طارد، في ظل ازدياد صعوبات الهجرة، وتعاظم وعورة طرقها، وتحولها إلى مورد جديد يرتزق منه تجّار الأزمات والنكبات، فيما يستمر نزيف الفلسطينيين من سوريا وتتكاثف دوافهم للهجرة بعيداً، ما يوقعهم ضحايا لأحلامهم الكبيرة في حياة آمنة.

خاص/بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد