قبل ست سنوات، في شهر آب/أغسطس، توشحت ريشة الفنانة ليلى العجاوّي، لأول مرة، بأبهى الألوان، لتبدأ رحلتها على جدران مخيم "إربد" للاجئين الفلسطينيين شمال الأردن.
تحاول حفظ الذاكرة الفلسطينية بفرشاتها
في ذلك اليوم، جسّدت المقاومة الفلسطينية كجبلٍ صامد، مُعلنةً تضامنها مع أهالي قطاع غزة، الذين كانوا يتلقون أمطارَ النار تحت طائرات الاحتلال الصهيوني.
ليلى اللاجئة الفلسطينية، التي تقطن مخيم إربد، اتخذت من فرشاتها ومزيج ألوانها، سلاحًا تدحر به رواية المحتل، وتحفظ به الذاكرة الفلسطينية. حمَلَت هّم وطنها المسلوب، وطبعت في ذاكرتها عنه صوراً بطعم الوفاء والحنين.
بين التجارب الذاتية والهمّ المجتمعي حكاياتٌ كثيرة، اقتنصتها ليلى وحولتها لمواضيع للوحات تعبر عن أفكارها وقناعاتها، فتارةً تدافع عن هوية وطنها، وتارة أخرى تُناصر حقوق النساء.. كل هذا بـ "الجرافيتي"، الفن الذي يعج بالرسائل الاجتماعية التي تحمل عنوان "التغيير".
هُجرت عائلة ليلى من بلدة "عجة " التي تقع ضمن قرى محافظة جنين، إبان النكبة الفلسطينية عام 1948، برفقة ما يقارب 800 ﺃﻟف ﻓﻠسطيني، من أصل 1.4 مليون، كانوا يقيمون في الأراضي المحتلة، حتى استقرت في مخيم إربد، الذي شكل هوية ليلى الفنية.
مدارس "أونروا" لم تعد تمارس دور حفظ الذاكرة ولوحاتي موجهة للجيل الجديد
اكتشفت موهبتها من خلال الرسم على غلاف الكتب في سن الخامسة من عمرها، حتى جابت جدران مخيمات اللاجئين في الأردن.
تقول عجاوّي لبوابة اللاجئين الفلسطينيين:" الأجيال الجديدة ليست مطلعة على الذاكرة الفلسطينية بما فيه الكفاية، وغير مدركة أهمية المقاومة، وما تمثله لنا في مخيمات الشتات، فكانت رسائلي التي اعتمدتها في جدارياتي موجهة إلى جيل المستقبل، خاصة أن مدراس " أونروا" لم تعد تمارس هذا الدور كما كانت في السابق، وخارج المخيم هناك غياب لهذه الذاكرة، التي تعد خط الدفاع الأول عن الوجود الفلسطيني".
لم تستطع ليلى دراسة الفنون الجميلة في الجامعة، نظرًا لتكاليفها الباهظة، التي لم تتناسب مع وضع أهلها المادي، ومنحة المخيم تغطي تكاليف المقعد الدراسي، أما ما يتطلبه التخصص الجامعي، فكان عليها أن توفر تكلفته بنفسها، فتخرجت من كلية الفيزياء الطبية، وواصلت تطوير موهبتها في الرسم من خلال المشاركة في مراكز الأنشطة الطلابية التي كانت تعقدها الجامعة آنذاك.
تأثير الغرافيتي أكبر من أي مبادرة أخرى
لم تتوان للحظة عن المشاركة في المبادرات المجتمعية، بحسب قولها "تحملت المسؤولية منذ طفولتي وكبر هذا الحس، عندما وجدت مدى تأثير الرسومات مجتمعياً، وأن الفن رسالة سامية قادرة على التغيير وجلب الانتباه للرسائل أكثر من أي وسيلة أخرى ".
تزيد العجاوّي: "مع دخول الجرافيتي إلى حياتي شعرت أنه أداة فعالة جدًا وتأثيره أكثر من أي مبادرات قمت بها سابقًا، فأصبحت أدمج الفن مع المبادرات، وأطبق مبادئي و قناعتي على الجداريات، فعندما أرسم عن أي قضية يجب أن أكون مؤمنة بها قبل أن أبدأ برسمها، وهل عندي المعلومات الكافية عنها أم لا".
تضيف: "هو بمثابة باب يفتح على الناس مباشرة، أتحدث مع كل من يمر في الشارع دون حواجز، ومن هنا تكمن أهميته وقدرته على التأثير".
يعد فن الجرافيتي من أهم الفنون التي يشهدها العالم للتواصل، وإحياء تراث الشعوب وتاريخها وفكرها فهي تحمل رسالة ثقافية وجمالية، وتعود الجداريات الأولى إلى زمن قديم أيام الحضارة الفرعونية والإغريقية والرومانية، وكانت داخل الكهوف وتطور الفن عبر الزمن، الذي يعرف بالتغيرات العامة لملامح سطح عن طريق استخدام بخاخ دهان أو قلم تعليم أو مواد أخرى.
ونشأ فن الجرافيتي الحديث في الستينات من القرن الماضي، أما بالنسبة لفلسطين فيعود تاريخ الفن إلى زمن الانتفاضة الأولى (1887-1994)، فكانت وسيلة للتعبير عن الرأي والغضب الفلسطيني ضد الاحتلال.
طلب مني "إسرائيلي" أن أشاركه برسم جدارية في مدينة القدس عن "السلام"!
تجري ليلى في كل مرة، جولة استطلاعية داخل المخيم، الذي تريد أن تنجز لوحة فنية على جدرانه - موضحة ذلك – "في حال كانت الرسمة تنتمي للناس راح يدافعوا ويحافظوا على وجودها أم اذا كانت بعيدة عن قناعاتهم وتوجهاتهم راح يخربشوا عليها ويمسحوها".
المرأة حاضرة ولها مساحتها الكبيرة في أعمال الفنانة ليلى؛،فهي انعكاس لشخصيتها، تعبر عن قضايا النساء وتناصر حقوقهن وترفض أي انتهاك يوجه للمرأة كونها أنثى، مشيرة إلى أنها تبحث عن التحديات التي تواجه الفتيات في الحياة اليومية، وتوعي المارة نحو هذه السلوكيات من خلال الجداريات.
عبرت ليلى لبوابة اللاجئين الفلسطينيين عن استيائها، من ظاهرة تزويج الفتيات مبكرًا في بعض عوائل المخيمات وحرمانهن من حقهن في التعليم تحت مبررات غير مقبولة على الإطلاق، فجسدّت جدارية عن الحق في التعليم لإرشاد الأهالي بأهمية تسلح الفتاة بعلمها.
أكثر من جهة تواصلت مع ليلى من أجل دعوتها لإقامة عروض فنية، تهدف إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، تقول:" طلب مني فنان "إسرائيلي" أن أشاركه برسم جدارية في مدينة القدس عن السلام مقدمًا عرضا مغريا جدًا، وآخر عرض علي أن يشتري أحد لوحاتي بمقابل مادي باهظ "، ووجهت لها دعوة ثانية من لندن لرسم جدارية مع " يهودي". ولكنها رفضت كل الإغراءات بشكل قاطع، فالتطبيع خيانة لوطنها ومبادئها وهي لا تؤمن بمنهجية السلام مع الكيان المغتصب لأرضها، بحسب ما أكدت.
الرسم الرقمي لتعزيز المحتوى الفلسطيني على الانترنت
لم يقتصر رسمها على الجداريات، فاتجهت إلى الرسم الرقمي عبر منصات التواصل الاجتماعي، لتعزيز المحتوى الفلسطيني الذي يحارب مؤخرًا، ما عرضها للهجوم. مؤكدة أنها متمسكة بالوطن وحق العودة إليه، ولهذا تحاول دائمًا تعريف العالم بالقضية الفلسطينية.
أشهر الجداريات الموجودة في العالم، هي التي شهدها جدار الفصل العنصري "الإسرائيلي" العازل الذي يعج برسومات احتجاجية ولوحات فنية، الذي قسّم الأرض في محاولة لإعاقة حياة السكان الفلسطينيين إضافة إلى ضم أراضٍ من الضفة الغربية المحتلة إلى "إسرائيل".